خالد بن سالم الغساني
يصر المصابون بعقدة المذهب، والمستشكلة عليهم مواقفهم، على الاستمرار في صراخهم وتنفيذ المطلوب منهم ، من خلال اعتبار ما شهدته وتشهده الأمة منذ إنشاء ما يسمى بدولة إسرائيل واحتلال الأراضي العربية، من ثورات وأشكال مقاومة مختلفة وصلبة، وصمود أذهل العالم، من قبل المقاومة في غزة ضد دويلة الكيان الصهيوني، وما أحدثه طوفان الأقصى في 7 أكتوبر، ويحدثه معها محور المقاومة، من خسائر وأضرار كبيرة تحدث لأول مرة خلال مرحلة الصراع مع الكيان الإسرائيلي؛ يصرون على قياس نتائج المعركة بمفاهيمهم الاستسلامية ومعاييرهم المزدوجة والمتناقضة، ونسيان أن الصراع مع العدو إنما هو طويل ومستمر طالما بقيت دولة الاحتلال.
إن النصر مفهوم صعب ومعقد، إنه لا يقاس بمجرد كسب معركة، أو تحقيق هدف أو بعض أهداف من أهداف أكبر وأبعد، فهو يحمل أبعادًا أشمل وأكبر، سياسية واستراتيجية، تعكس قدرة كل طرف على الصمود والتأثير في ميزان القوى.
وفي سياق الصراع بين محور المقاومة بأطرافه المختلفة من جهة، وإسرائيل والولايات المتحدة بشكل أساسي من جهة أخرى، إلى جانب تواطؤ ما يسمى بالنظام العالمي.
فإن الخسائر الكبيرة والمؤلمة التي تلقاها المحور المقاوم تمثلت بشكل واضح في خروج سوريا من المعادلة، ثم غياب حزب الله عن المعركة الأخيرة بعد تلقيه هو الآخر ضربات وخسائر أليمة، إلى جانب صمود إيران في العدوان الإسرائيلي-الأمريكي الأخير، وتأثير ضرباتها وصمودها، تطرح أسئلة مهمة وجوهرية حول معنى النصر.
إن التصعيد غير المسبوق بين إيران ومحور المقاومة من جهة، وإسرائيل بدعم أمريكي وغربي، والصمت العربي والتواطؤ العالمي من جهة أخرى، والضربات التي نالت من المنشآت النووية والعسكرية الإيرانية، بالإضافة إلى اغتيال قادة عسكريين بارزين، قابله الرد الإيراني القوي وغير المتوقع من قبل الكيان المحتل وأمريكا والشامتين، الذي أحدث خسائر مادية وبشرية ونفسية كبيرة، تحدث لأول مرة في تاريخ الصراع مع إسرائيل، وتظهر قدرة الجمهورية الإسلامية الإيرانية ومعها أطراف محور المقاومة، على الرد رغم الجراح والخسائر الكبيرة، والضغوط الهائلة، تقول لنا: إن النصر لا يمكن قياسه بعدد المواقع المدمرة والأهداف المصابة، أو بعدد الخسائر البشرية.
فقد عانى محور المقاومة على مدى تاريخ الصراع، من فقدان قادة وكوادر بارزين، ومن إضعاف قدراته القتالية إلى حد كبير، لكنه في المقابل أثبت أنه قوة ردع كبيرة أفشلت كل مخططات العدو، ومراهنات الخونة، وأحدثت فيه -ولا تزال تحدث- خسائر كبيرة ومؤثرة، وستظل هذه القوة تكبر وقادرة على التأثير في قدرات وإمكانيات العدو وإلحاق الخسائر الكبيرة فيه، لأن قتاله ومقاومته تنبعان من إيمانه بعدالة ما يقاتل من أجله، وصمود شعبه وجماهيره من حوله بحتمية انتصاره الكامل رغم التضحيات الجسيمة.
صمود إيران في وجه الضربات الإسرائيلية والأمريكية، وردها القوي في استهداف مواقع عسكرية وأمنية واستراتيجية في عمق الدويلة الاستيطانية، أظهر أن الجمهورية الاسلامية الإيرانية ستستمر، وقادرة على فرض توازن الرعب.
هذا الصمود إلى جانب صمود حلفائها، عزز ويعزز من مكانة المحور كقوة إقليمية يحسب حسابها، ولا يمكن تجاهلها في أي حسابات قادمة.
في النهاية، هل انتصر طرف ضد آخر أو حسمت المعركة لصالح أي من الطرفين؟
الإجابة يعرفها أولًا ويدرك أبعادها ونتائجها ومآلاتها العدو نفسه، الكيان الصهيوني والولايات المتحدة الأمريكية، بينما يثق محور المقاومة بقدراته وإمكانياته القادرة على إنزال المزيد من الضربات التي ستؤدي في النهاية إلى النصر المؤزر.
نعم إسرائيل والولايات المتحدة نجحتا في إلحاق أضرار بأطراف المحور وبالبنية التحتية العسكرية والنووية الإيرانية، لكنها لم تستطع أن تدمر البرنامج النووي الإيراني، ولم تستطع تنفيذ خططها في إسقاط النظام، والأهم من كل ذلك أنها لم تطفئ جذوة المقاومة، ولم تنتزع الثوابت الإيمانية بحتمية النصر، بل أنها قد أشعلت جذوات أخرى ورسخت تلك الثوابت في أعماق الأرض وزادت من صلابتها والتمسك بإيمانها.
إن هذه الجولة، انتهت كما شاهدنا بوقف إطلاق النار، الأمر الذي يبين أن أيًا من الطرفين لم يحقق نصرًا حاسمًا.
لكنه من ناحية ثانية أهم، تجلى في قدرة الجمهورية الإسلامية الإيرانية -بعد حصار دام أكثر من أربعة عقود، وعمل مكثف لإضعافها وصولًا إلى النيل من مبادئها وثوابتها المقاومة- على الصمود والبقاء كقوة فعَّالة رغم الخسائر الجسيمة والمؤلمة.
لقد نجحت الجمهورية الإسلامية الإيرانية في الحفاظ على خطابها المقاوم وترجمته ومكنته فعليًا، ونجح محور المقاومة في فلسطين ولبنان والعراق واليمن، ومعهم شرفاء العالم، في إظهار قدرتهم على الصمود والاستمرار في المقاومة، الأمر الذي يعكس القدرة على التكيف مع الظروف الجديدة.
النصر إذًا، لا يقاس بالخسائر المادية أو البشرية، بل بقدرة كل طرف في الحفاظ على وجوده الاستراتيجي وتأثيره الإقليمي. ومحور المقاومة رغم الضربات التي ألمَّت به، واعتبرها أمثال أولئك الذين أشرنا إليهم في البداية، نصرًا لهم وسحقًا للمقاومة، لا يزال وسيظل يشكل قوة ردع تقضُّ مضاجع العدو.
فالتاريخ يعلمنا حقيقة الزوال الحتمي لكل أشكال الاحتلال..