حمود بن سعيد البطاشي
يُحكى أن معرضًا للكتاب أُقيم في إحدى الدول العربية، وتم الترويج له بكثافة عبر القنوات التلفزيونية والإذاعات والمواقع.. جهَّز المنظمون آلاف العناوين في شتى المجالات، واستُدعيت دور النشر، وازدانت القاعات استعدادًا لاحتضان الزوار.
وبعد انتهاء المعرض، أُجريت إحصائيات دقيقة فكانت الصدمة الكبرى: عدد الكتب المباعة لا يتجاوز 30 كتابًا فقط، بينما بلغت مبيعات المقاهي والمطاعم داخل المعرض آلاف الطلبات؛ ما يقرب من 2000 ساندويتش شاورما، 4 آلاف برجر، 2000 كوب قهوة، ناهيك عن العصائر والحلويات. مشهد جعل الكتاب يختفي خلف رائحة الشاورما، وحروف الفكر تُهزم أمام مذاق الكريمة.
هنا نتوقف ونسأل: هل ما زالت أمة "اقرأ" تقرأ؟
المؤسف أن ما حدث ليس حالة نادرة؛ بل أصبح واقعًا يتكرر. وأصبح الذهاب لمعرض الكتاب مناسبة لالتقاط الصور، وتوثيق الحضور، وربما تذوق القهوة من كشك جديد، أما الكتب؟ فيبقى مصيرها الانتظار على الأرفف حتى تنتهي الفعالية.
إنها أزمة وعي لا أزمة وقت. فحين تأكل الأمة أكثر مما تنتج، وتستهلك أكثر مما تزرع، وتنام أكثر مما تعمل، وتتكلم أكثر مما تفعل، فاعلم أن الكارثة لا تكمن في شحّ الموارد، بل في ضياع الأولويات.
أصبح البرجر والشاورما أهم من 1000 كتاب!
تغيب العقول وتنتفخ البطون. وكلما زاد انشغالنا بالاستهلاك، كلما قلّ تفكيرنا بالإنتاج. ثقافة الوجبات السريعة انتقلت من الطعام إلى الفكر، فصار كثيرون يريدون "معلومة سريعة" في مقطع قصير بدلًا من قراءة كتاب يمنحهم فهمًا عميقًا.
نحن لا نرفض الطعام، بل نستنكر أن يصبح هدف الزيارة إلى معرض كتاب هو ملء المعدة لا تغذية العقل. نحن لا نلوم من أكل، ولكن نأسف على من ترك غذاء الفكر جانبًا.
المعادلة في العالم المتقدم واضحة: الكتاب أولًا، لأنهم يؤمنون أن بناء الإنسان يبدأ من عقله. أما نحن، فقد خذلنا الحرف، وخذلنا أنفسنا، وبتنا نعيش في استهلاك يومي لا يضيف لحياتنا شيئًا سوى التخمة.
فمتى نفيق؟
حين نُعيد للكتاب هيبته، وللمعرفة قيمتها، ونربّي أبناءنا على السؤال لا على الشبع، وعلى البحث لا على الترف، سيكون لدينا مجتمع قادر على النهوض. فالأمم لا تتقدم بكثرة المطاعم، بل بغزارة الفكر.
وفي الختام.. إذا كان بيع 30 كتابًا في معرض ضخم مجرد تفصيل صغير؛ فاعلم أن مصير الأمة ليس بيد جيوشها ولا اقتصادها؛ بل بيد وعيها.. فإن جاعت العقول، ساد الظلام، حتى وإن امتلأت البطون.