عيسى الغساني
يُعد التكامل التشريعي مبدأً متعارفًا عليه في الأنظمة القانونية الرشيدة؛ ذلك أن النظرة الكلية لمقاصد التشريع تمثل الأساس المُحرِّك لكل تطوير، أو تعديل، أو إلغاء لتشريع أو قانون، بيد أن الحفاظ على المفهوم الكلي للتشريع يقتضي أن تكون منهجية التعديل أو التشريع واضحة ومرسومة وتبدأ من القاعدة إلى أعلى الهرم، وتُبنى على التشارك لا التفرد.
ومن أخطر التحديات التي تواجه النظام القانوني في الدول ظاهرة "التشريعات المُجتزأة"، أي تلك القوانين أو اللوائح التي تُسنّ بمعزل عن تصور تشريعي شامل أو رؤية استراتيجية متكاملة. تأتي هذه التشريعات كردود أفعال لحالات معينة، أو بتأثير ضغط مصالح جزئية، مما يجعلها تفقد التناسق مع باقي البناء القانوني، وتُحدث تشويشًا في التطبيق وتضاربًا في التفسير.
والتشريع المُجتزأ هو نص قانوني يصدر لمعالجة جزئية ضيقة أو حالة طارئة دون أن يُنظر إلى علاقته بالنظام القانوني الكلي، أو أثره على المبادئ العامة الحاكمة للتشريع، أو حتى على التشريعات الموازية. وغالبًا ما تكون هذه النصوص مليئة بالثغرات، سطحية في منطقها، مشوشة في مرجعيتها، وغامضة في تطبيقها.
أما آثار التشريع المُجتزأ على المنظومة القانونية فتشمل:
- تفكك البنية القانونية؛ حيث يؤدي تراكم النصوص المُجتزأة إلى تصادم في المفاهيم القانونية، واختلاف في المعايير والضوابط، مما يُربك القاضي والمشرّع والإداري على السواء.
- هشاشة العدالة؛ إذ تتولد حالة من غياب العدالة المتوازنة عندما تتعامل التشريعات مع الأعراض بدلًا من الأسباب، ومع الأفراد بدلًا من النظام، فيغيب مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص.
- تقييد الإصلاح الشامل؛ حيث تعرقل هذه التشريعات إمكانية الإصلاح الجذري، إذ تُحدث تعقيدات تجعل من تعديل النظام التشريعي كليًا مهمة شبه مستحيلة.
- انعدام الثقة المؤسسية؛ فحين يلاحظ المواطنون التناقض بين النصوص أو عدم انسجامها، يُصابون بحالة من انعدام الثقة في المؤسسات، ويرون القانون أداة لفرض السلطة لا لتحقيق العدالة.
لكن.. كيف نُحقق البعد الكلي للتشريع؟ يمكن ذلك من خلال:
- وضع سياسة تشريعية وطنية واضحة: ينبغي للدول أن تعتمد وثائق مرجعية تحدد المبادئ العليا للتشريع، والأهداف الاستراتيجية، والضوابط الدستورية والقيمية التي تحكم أي نص جديد.
- تعزيز دور المجالس التشريعية ومراكز الأبحاث: لا بد من تمكين المجالس البرلمانية والهيئات المختصة بالتشريع من أدوات التحليل والتقييم والمراجعة، لتفادي إصدار قوانين منفصلة عن السياق العام.
- اعتماد النهج التشاركي: التشريع ينبغي أن يكون ثمرة حوار مجتمعي ومهني واسع، يشمل القانونيين والاقتصاديين والمجتمع المدني، بما يُكسب النص شرعية اجتماعية وفكرية.
- توحيد لغة التشريع: وذلك من خلال دليل صياغة تشريعية موحّد يضبط المصطلحات، والأسلوب، والتسلسل المنطقي، ويمنع التكرار والتناقض.
وأخيرًا.. التشريعات المُجتزأة ليست فقط مشكلة قانونية؛ بل هي تجلٍ لاختلال في الرؤية السياسية، وانقطاع في النسق الفكري الحاكم للدولة. أما التشريع المتكامل، فهو تعبير عن وعي ناضج بالواقع، ورغبة في تأسيس دولة القانون لا دولة النصوص. ولن تتحقق السيادة القانونية إلا إذا أصبح التشريع جزءًا من رؤية كلية للعدالة والتنمية والهوية.