الكلمة بين المعنى والأثر

 

 

عيسى الغساني

الكلمات والعبارات ليست أصواتًا عابرة أو رموزًا للتفاهم بين البشر، بل هي أبعد وأعمق من ذلك. الكلمات وعاء للمعنى، وحامل للفكرة. فكل إنسان بقدر ما يحمل من كلمات ومعانٍ، بقدر ما يكون قادرًا على التفاعل والتعاطي مع محيطه إيجابًا أو سلبًا، عطاءً أو منعًا. ويتحدد البناء والعطاء أو نقيضهما بالكلمة. فالكلمات ليست مسألة شكلية، بل التزام أخلاقي ومعرفي ومحفز نفسي.

فإذا كانت الكلمات تحمل معاني ودلالات غير متوافقة مع القيم الأخلاقية، فإن أثرها يكون سلبيًا. على سبيل المثال: كلمة شغالة تحمل إيحاءً بالنقص، بينما البديل الأخلاقي هو عاملة منزل أو بدرجة أرقى، مساعدة بالمنزل. وكذلك كلمة معاق قاسية تُوحي بالعجز، والأفضل أن يقال ذو احتياجات خاصة.

 أما كلمة أقلية فتبدو وصفًا محايدًا من حيث العدد، لكنها في الواقع ترمز إلى التهميش وتُعيد إنتاج الإقصاء. والبديل الأخلاقي هو استخدام مكوّن وطني أو مكوّن ثقافي. إن ما هو حقًا مهم وضروري للمجتمعات التي تنشد السلم الأهلي والتماسك الاجتماعي أن تكون حريصة على فهم اللغة وأثرها وكيفية استخدامها.

وفي الأنثروبولوجيا تُفهم الكلمة على أنها رمز ثقافي يحوي ذاكرة جمعية. ويرى كلود ليفي-شتراوس: "الكلمات ليست فقط أدوات للتواصل، بل هي أنظمة رمزية تنقل البنية العميقة للفكر الجمعي." بينما يقول إدوارد سابير: "اللغة ليست وسيلة للتعبير عن الأفكار فحسب، بل هي أداة لصياغة الأفكار ذاتها." فالكلمة مخيال ثقافي؛ فالخبز رمز للرزق، وكذلك شجرة النخيل أو شجرة الزيتون، إذ إن الثمار التي تنتج في كل مجتمع لها رمزيتها الخاصة. وعندما يُحتفل بمواسم الحصاد تتأصل تلك الرمزية.

لكن ما هو ذو أهمية ويجب النظر إليه بعين بصيرة هو البعد الاجتماعي لرمزية الكلمات. فهي ليست محايدة، بل تؤدي دورًا اجتماعيًا قد لا يُدركه الناطق بها. وإذا كان بيير بورديو يقول: "من يملك التسمية يملك الواقع"، فإن يورغن هايس مايس يعزز ذلك بقوله: "التواصل اللغوي لا يكتفي بنقل المعلومات، بل يصنع التوافق الاجتماعي".

ولا يقل البعد النفسي أهمية؛ فكل كلمة لها أثر مباشر على الوعي واللاوعي. فالكلمة – كما قال القدماء – لها مفعول السحر. والكلمة الطيبة هي الفارق بين اليأس والأمل. إن الكلمات ليست محايدة، بل هي أداة للأمل، أداة للعدالة، وأداة للتلاقي بين ذاكرة الجماعة ورموزها، ولإعادة بناء العلاقات والتأثير في المشاعر. وتحمل الكلمة رمزية لصناعة الأمل وبناء المستقبل لكل أمة، إذ عمل وأقنع واقتنع الجميع بأثر وأهمية الكلمة كمخزن توعوي وثقافي.

الأكثر قراءة