تطوّر العملية التشريعية في الدولة البوسعيدية.. رحلة حلم وطني يتجدد

 

 

د. سعود بن محمد الفارسي

على مدار الأزمنة، وفي عمق التاريخ العُماني، لم تكن التشريعات مجرد نصوص مكتوبة؛ بل كانت مرآةً لروح الوطن وإيقاعه المتزن، ومع بزوغ عهد دولة البوسعيد قبل أكثر من قرنين ونصف القرن، بدأت ملامح مشروع تشريعي وطني ينمو بهدوء العُمانيين المعهود، ويتّسع بقدر ما تتّسع رؤيتهم للحياة والدولة والإنسان.

فمنذ اللحظات الأولى لتأسيس الدولة البوسعيدية وتحديدًا في عام 1744م، ورغم غياب القوانين المُدوّنة بالمعنى الحديث لها، فإنَّ ملامح التشريع المكتوب بدأت تتشكّل مبكرًا في سجلات القضاة وأوامر الأئمة والسلاطين، فقد حفظت الذاكرة العُمانية وثائق منذ النصف الثاني للقرن الثامن عشر تُظهر أحكامًا وقواعد تنظّم التجارة والموانئ وتسوية النزاعات، كانت تُكتب بخط اليد وتُحفظ في الدواوين والمساجد، ثم جاء عهد السلطان سعيد بن سلطان ليُضيف أول الوثائق التنظيمية الشبيهة بالقوانين، من أوامر تُنظّم الملاحة والتجارة البحرية، واتفاقيات تُحدّد المعاملات الاقتصادية والعلاقات الدولية، تلك الكتابات المتناثرة والوثائق المتفرقة كانت البذرة الأولى لرحلة التقنين العُماني التي ستتطور مع مرور الزمن لتصبح منظومة تشريعية أكثر نضوجًا مع بدايات القرن العشرين، وصولًا إلى عصر الدولة الحديثة.

والمُتبحِّر في عهد أئمة وسلاطين عُمان منذ عصر الإمام أحمد بن سعيد، يعلم جيدًا أن بناء الدولة- آنذاك- لم يكن مشروعًا سياسيًا فحسب؛ بل كان تأسيسًا لأُطر تضبط علاقة الحاكم بالمجتمع، وتضبط حركة التجارة، وتنظّم مسارات العدالة، فقد أدرك العُمانيون باكرًا أن القانون ليس قوةً تُفرض، ولا يدًا من حديد تَضرِب؛ بل عقدٌ اجتماعي يصون الحلم الكبير والأهداف المشتركة.

ومع مرور الأزمنة وتوالي السلاطين، كان هذا الحلم التشريعي يتطور ويتقدم، فترسّخت مبادئ القضاء، وانبثقت نظم إدارية أكثر تنظيمًا، واستمرّت الدولة في تعزيز قيم الشورى واللامركزية، حتى أضحت ثقافة قانونية تسبق النص وتُمهّد له، ومع كل انتقال سياسي، كانت عُمان تُثبت أن الاستقرار لا يُصنع بالقوة؛ بل بالحكمة، والتدرّج، واحترام الإنسان.

ثم جاء عصر النهضة الحديثة بقيادة المغفور له بإذن الله السلطان قابوس بن سعيد ليصنع من تلك الجذور بنية تشريعية متكاملة، فصدرت القوانين المُنظِّمة لشؤون الدولة والمجتمع، وتأسّست المحاكم المتخصصة، ورسخت دولة المؤسسات والقانون، وصولًا إلى صدور النظام الأساسي للدولة عام 1996م، الذي أعاد تعريف العلاقة بين المواطن والدولة في إطار من العدالة وسيادة القانون، وتحددت معه ملامح أوضح لمفهوم الفصل بين السلطات.

وفي ظل النهضة المتجددة اليوم تحت القيادة الحكيمة لحضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- وبصدور النظام الأساسي الجديد للدولة عام 2021، يتسع هذا المسار ليشمل أبعادًا أكثر شمولية؛ حيث الحرص على أن تساير التشريعات توجهات الاقتصاد الجديد وتتوافق معه، وأن تواكب التحول الرقمي والتقدم التكنولوجي والرقمي الذكي، وحوكمة تُعيد تشكيل أجهزة الدولة بما يضمن تحقيق رؤية "عُمان 2040"، وأنظمة تصون كرامة الإنسان وتوفر احتياجاته كنظام الحماية الاجتماعية، وتمكين أكبر ومتواصل لنظام الإدارة المحلية واللامركزية لضمان تطوير المحافظات والخدمات والاستفادة من المقومات المختلفة والميز التنافسية لها، فالرحلة التشريعية في عُمان رحلة هادئة… لكنها عميقة؛ متدرجة… لكنها طموحة، تُشبه شخصية هذا الوطن الذي لا يرفع صوته؛ بل يرفع من شأنه.

ختامًا.. إنَّ الاحتفال باليوم الوطني لسلطنة عُمان وذكرى تأسيس الدولة البوسعيدية ليس مجرد تذكير بلحظة تاريخية؛ بل هو استدعاء لمسيرة تشريعية تعلّمت من البحر اتساعه، ومن خبرة العُمانيين في ركوب البحار القيادة، ومن جبل سمحان ثباته، ومن الإنسان العُماني حلمه الطويل الذي لا ينكسر، قانونًا بعد قانون، ومؤسسة بعد أخرى، نضجت التجربة العُمانية حتى أصبحت اليوم نموذجًا فريدًا في المنطقة: دولة تُقاد بالحكمة، وتنمو بالتشريع، وتحلم بمستقبلٍ أكثر عدلًا وتقدمًا ورسوخًا.

وهكذا… تستمر دولة آل بوسعيد في نسج هذا المسار الهادئ، تُضيف بندًا، وتُحدّث تشريعًا، وتفتح بابًا جديدًا لحقّ أو فرصة، وكأنها تقول للعالم في يومها الوطني: هنا عُمان؛ حيث تصبح العدالة أسلوب حياة، ويصبح التشريع طريقًا نحو مستقبلٍ يُشبه أحلامنا.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة