علي بن مسعود المعشني
عرف العالم وخاصة منطقتنا العربية ما سُمّي بـ"وديعة رابين" نسبة إلى رئيس حكومة العدو الصهيوني إسحاق رابين، هذه الوديعة التي سعى من خلالها إلى ما يمكن وصفه بحالة تصفير المشاكل مع دول الجوار لفلسطين المحتلة؛ حيث تضمنت تلك الوديعة اتفاقية أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية عام 1993، واتفاقية وادي عربة مع الأردن عام 1994، وتعطلت عند سوريا بفعل شروط القيادة السورية وتصلّبها بعدم التفريط في عودة أراضي الرابع من يونيو 1967، ثم طُوي ملفها باغتيال رابين عام 1995.
يسعى الرئيس الأمريكي اليوم إلى ما يُشبه وديعة رابين، ولكن على طريقته، وبموجب مقتضيات واقع اليوم ومعطياته؛ فمن مفارقات القدر وإكراهات السياسة، أن الرئيس دونالد ترامب الذي انسحب من اتفاقية فيينا في عهدته الأولى عام 2016، مُراعيًا مصالح الكيان الصهيوني ومُغريات أتباعه الإقليميين حينها، تخوض إدارته اليوم جولات من المفاوضات مع إيران على برنامجها النووي، مع التسليم التام بأحقية إيران في البرنامج النووي السلمي، وبرنامج الصواريخ الباليستية، وبرنامج المسيّرات، وكذلك القبول بشرط إيران بعدم الحديث عن علاقاتها الإقليمية، كل هذا مقابل تعهّد إيران بعدم إنتاج السلاح النووي والقبول بالعودة إلى برنامج التفتيش الدوري من قبل خبراء وكالة الطاقة النووية الدولية. بينما التزم سلفه الديمقراطي جو بايدن مُوقّع اتفاق فيينا مع رئيسه باراك أوباما - آنذاك - بقرار انسحاب أمريكا ولم يُحرّك ساكنًا للعودة إليه مجددًا إرضاءً لرغبات كيان العدو.
لم يكتفِ ترامب بالسعي لتسوية الملف النووي الإيراني فحسب؛ بل دخل وسيطًا قويًا في ملفات ملتهبة أخرى كملفات أوكرانيا وغزة واليمن ولبنان، وأخيرًا وليس آخرًا فتح حوارًا جادًا مع الصين كانت ثمرته الأولى تأجيل حرب رفع الرسوم بين الطرفين مدة تسعين يومًا، وبالأمس الاتفاق الثنائي على خفض الرسوم الجمركية.
لا شك أن خطوات ترامب هذه أذهلت كل متابع له منذ إعلانه ترشّحه وما رافق حملته من وعود، ومع تصريحاته النارية المستفزّة بعد توليه الرئاسة، تلك التصريحات التي يمكن وصفها بإعلانه الحرب على العالم. ولا شك أن خطوات ترامب هذه جلبت له المتاعب مع الأوروبيين والكيان الصهيوني وأظهرت للعالم أن ما يربط الأمريكي بالأوروبي هو مقتضيات الضرورة وليست القواسم أو المصالح الدائمة، كما تبيّن أن التفرّد الأمريكي بالتفاوض مع إيران ثم اليمن وفق أجندة مصالحه ودون الإصغاء للحلفاء أو الأتباع في المنطقة، أن للأمريكي مصالح وحسابات خاصة به، وأن خلافاته التكتيكية مع كيان العدو وتوابعه في المنطقة لا تُلغي علاقاتهم الاستراتيجية ولا تُخلّ بها.
ترامب أهدى للكيان الصهيوني ما يضمن أمنه ويُهدّئ من روعه بعدم امتلاك إيران للسلاح النووي في برنامجها النووي، وفي المقابل حرص ترامب على النفاذ بجلده وحيدًا من ضربات "أنصار الله" في اليمن، ولم يتمكن من إدراج أمن كيان العدو في ملف مفاوضاته مع الأنصار في ظل جرح غزة النازف.
لهذا يسعى ترامب جاهدًا إلى طمأنة كيان العدو وتوابعه في المنطقة بأن التحفيز على التطبيع مع الكيان بالترهيب والترغيب سيكون مكافأة سخية وانتصارًا استراتيجيًا وحيدًا للعدو من مطحنة الطوفان التي أفقدته صوابه ومبرر وجوده.
قبل اللقاء.. يمكن فهم وتفسير خطوات ترامب بأنه وجد نفسه أمام خيارين لا ثالث لهما: إما التضحية بأمريكا ومصالحها الإقليمية والدولية، أو التضحية بجزء من مصالح ورغبات الحلفاء والأتباع؛ فاختار الأولى، مع حرصه على جوائز ترضية للآخر.
وبالشكر تدوم النعم.