التقابل بين الصهيونية والعروبة

 

 

د. عبدالله الأشعل **

الصهيونية أقدم من القومية العربية؛ حيث بدأت منذ العصور الوسطى وكانت إرهاصاتها ثقافية تسللت إلى المُقررات الدراسية في أوروبا وأحيانا كانت تتلون باللون الديني، لكنها كانت حركة انتهازية انحازت إلى الكنيسة أحياناً وإلى الملوك والأمراء أحياناً أخرى، شجعت الحروب الصليبية على العالم الإسلامي خاصة وأنَّ هذه الحروب امتدت من القرن التاسع الميلادي حتى القرن الخامس عشر، وركزت على فلسطين والأماكن المقدسة.

ارتبطت الحركة الصهيونية منذ نشأتها بالتدثُّر بالعاطفة الدينية، وبدأت تتحدث منذ العصور الوسطى عن مملكة داود وسليمان والرموز المقدسة في هذه المملكة وتتباكى على الأمجاد اليهودية في الأرض الموعودة المقدسة ومنها هيكل سليمان وجبل صهيون الذي نُسبت إليه هذه الحركة. وقد لعبت الحركة الصهيونية بالعواطف الدينية عند اليهود خاصة وهم يزعمون أن صراعهم مع الأمم الأخرى أدى إلى هدم الهيكل والرموز الدينية في مملكة داود وسليمان.

ومن الواضح أنَّه لا علاقة للفلسطينيين، وهم اليبوس العرب الذين سكنوا فلسطين منذ القدم وكانوا مع بنى إسرائيل في فلسطين، ولذلك عندما نجح موسى- عليه السلام- في إنقاذ بنى إسرائيل من فرعون مصر وعبر بهم إلى فلسطين، تحدث القرآن الكريم عن القوم الجبارين، وهم الفلسطينيين الذين هم أصل سكان فلسطين، وعندما أمرهم موسى بالدخول إلى فلسطين لاستعادة مكانتهم فيها بعد هجرتهم إلى مصر- في عهد نبي الله يوسف عليه السلام- عادوا إليها في عهد النبي موسى، وكالعادة جبنوا عن مُواجهة الفلسطينيين وقالوا قولتهم الشهيرة إن فيها قومًا جبارين ولن ندخلها حتى يخرجوا منها "قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ" (المائدة: 22)، وقالوا أيضًا لموسى "إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا ۖ فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ" (المائدة: 24)، فكان طالوت رمز الكفر والوثنية، وكان جالوت رمز الإيمان، فكأن الإيمان انتصر على الكفر، وليس كما قال بعض السفهاء أن بني إسرائيل انتصروا على الفلسطينيين!

الحركة الصهيونية لعبت على العواطف الدينية المفتعلة وعلى نسيج من التاريخ المزيف، إضافة إلى أنَّ هذه الحركة حركة علمانية لا علاقة لها بالدين، ثم إنَّ هذه الحركة عنصرية لأنها تفترض سُّمو اليهود على غيرهم من الأمم الأخرى كما إن هذه الحركة تخلط بين الدين وبين السياسة عندما تقول إن اليهودية ديانة وهوية قومية معًا. ولعبت الحركة الصهيونية على الفكرة القومية التي ظهرت في القرن التاسع عشر في أوروبا التي تعتبر اليهود شعباً وأن هذا الشعب ينخرط في قومية، وهي القومية اليهودية فخلطت الحركة بين مختلف العناصر المتضادة والمتعاكسة.

الشريعة اليهودية تأبى كل الشعارات التي رفعتها الحركة الصهيونية ثم إنَّ الحركة الصهيونية نشطت في إيطاليا في القرن التاسع عشر عندما كان جوزيبي مازيني يرفع شعار القومية الإيطالية، لكي يوحد الجمهوريات الستة في إيطاليا.

ومن الواضح أن الحركة القومية اليهودية تركيب عنصري شاذ؛ فالحركة القومية الإيطالية تعمل على وحدة الأمة الإيطالية والحركة القومية الألمانية تهدف إلى توحيد الإمارات الألمانية في الأمة الألمانية على يد "أوتو فون بسمارك".

وفي نهاية القرن التاسع عشر تلقف المهاجرون العرب والمنفيون والمضطهدون العرب في أوروبا الخيط فبشروا بالقومية العربية على افتراض أن الأمة العربية أمة واحدة مزقها الاستعمار الغربي، مثلما تمزقت إيطاليا وألمانيا في عصور الإقطاع، وكانت الحركة القومية في أوروبا قد بدأت في القرن السادس عشر لإنشاء الدولة القومية الموحدة تحت سلطة الملك بعد أن تخلصت جيوش الملك من جيوش البابا والكنيسة.

وتأثرت الحركة الصهيونية بالعلمانية التي نشأت في أوروبا في ذلك الوقت فكأن الحركة الصهيونية حركة مشبوهة تفترض أن اليهود أمه وأنها تستحق أن يكون لها دولة ويبدو أن جذور فكرة القومية العربية كما فصلها ساطع الحصري في محاضراته في الستينيات من القرن الماضي في معهد الدراسات العربية في القاهرة قد تأثرت بالحركة الصهيونية مع فارق أساسي وهو أن اليهود ليسوا أمة ولا يجوز أن يكون لهم قومية أما العرب فهم أمة يجب أن يكون لهم قومية.

الحركة القومية اليهودية تسترت بالدين بينما هي حركة علمانية سياسية ارتبطت بالاستعمار الغربي واستعانت به لاغتصاب فلسطين.. والحركة القومية اليهودية تختلف تمامًا عن الحركة العربية في خمسة مواضع على الأقل:

الموضع الأول أن الصهيونية حركة عنصرية استعلائية مرتبطة بالاستعمار بينما الحركة القومية العربية حركة ثقافية تحررية تهدف إلى تحرير الأمة العربية من الاستعمار والتفتيت.

الموضع الثاني أن الحركة الصهيونية تحالفت مع الاستعمار الغربي، بينما الحركة القومية العربية ترى أن الاستعمار الغربي هو سبب مأساة الأمة العربية وأن هذا الاستعمار يتحالف مع الصهيونية لاغتصاب فلسطين والهيمنة على الأمة العربية.

الموضع الثالث أن الحركة الصهيونية تهدف إلى اقامة دولة لليهود في فلسطين وأنها اخترعت الأساطير التوراتية والتاريخية حتى تتلاعب بعواطف اليهود. بينما الحركة القومية العربية تهدف إلى اقامة الدولة الأمة على أرضهم العربية.

الموضع الرابع أن الحركة الصهيونية والحركة القومية العربية حركة سياسية، ولكن الفارق بينما كبير، فأهداف الحركة القومية العربية مشروعة وأما أهداف الحركة الصهيونية هي أهداف إجرامية غير مشروعة وتهدف إلى اقتلاع العروبة من موطنها.

الموضع الخامس أن الحركة الصهيونية استعانت بالاستعمار الذي رتب لها اقامة إسرائيل، لكي تكون رأس الحربة في الاقليم للمشروع الصهيوني، بينما الحركة القومية العربية تحالفت مع حركات التحرر الوطني في كل مكان ضد الاستعمار. ولذلك فإن الحركة الصهيونية حركة عنصرية كما قررت الأمم المتحدة ووضعتها في مصاف الجرائم ضد الإنسانية ويجب محاربتها ولذلك فإن هذا الوصف يتعلق بطبيعة الحركة وتاريخها وهيكلها ولا يجوز رفع هذا الوصف كما حدث عام 1991، لكي تطلق الحركة الصهيونية جميع أنشطة الابادة ضد الشعب الفلسطيني.

وطبيعيٌ أن الحركة الصهيونية تجد دعما وأنصارا في أوروبا وأن تجد الحركة القومية العربية عداءً في هذه الأوساط ونختم هذا المقال بالخلاصة، وهي أن هذه المنطقة لا تتسع للحق العربي والباطل الصهيوني معًا، وأن العروبة لا يمكن أن تُقتَلَع من موطنها، ولا يمكن للعرب أن يفرغوا من هويتهم العربية؛ لذلك يعادى الصهاينة كل الشرائع بما فيها الشريعة اليهودية ويحرفون كل الكتب المقدسة ويلجؤون بلا حياء لكل الأكاذيب.

ومهمة هذه المقالات أن تمهد الأرض لاقتلاع الصهيونية على الأقل في المنطقة العربية، وكما كانت الحركة الصهيونية فكرة انتقدها المعاصرون، فإن اقتلاع الصهيونية فكرة منطقية وسيُقدَّر لها الانتشار.

** أستاذ القانون الدولي ومساعد وزير الخارجية المصري سابقًا

الأكثر قراءة