مرتضى بن حسن بن علي
المَقالةُ التي نشرها الكاتب الخبير في التدريب والموارد البشرية العقيد المُتقاعد عبدالوهاب البلوشي في جريدة "الرؤية"، وأُعيدَ نشرها في عدد كبير من وسائل التَّواصل الاجتماعي تحت عنوان: "دكتوراه في الجهل"، أثارت ردود فعل مُتباينة تغلبت عليها عبارات النقد والتَّهكم.
في اعتقادي المتواضع، أن المقالة لم يكن موجهًا ضد البحوث العلمية المُحترمة؛ بل بالعكس، بقدر ما كانت تحمل دلالات نقدية عميقة توجه رسالة واضحة حول إشكالية الحصول على الدرجات العلمية (خاصة الدكتوراه) في بلدان العالم الثالث ومنها البلدان العربية لأسباب غير أكاديمية أو علمية أو مجتمعية؛ مما ينتج عنها:
- تفريغ الشهادات من قيمتها؛ وذلك بسبب ظاهرة سعي بعض الأفراد للحصول على شهادة الدكتوراه، ليس بهدف الإضافة العلمية أو خدمة المجتمع؛ بل للتفاخر بلقب "دكتور"، مما يحوّل الشهادة إلى مجرد "وسام اجتماعي" فارغ من المضمون.
- يستخدم الكاتب تعبيرًا لافتًا هو "دكتوراه في الجهل" ليُشير إلى تناقض صارخ بين الشهادة ومضمونها وفائدتها للمجتمع؛ فبدلًا أن تكون الدكتوراه رمزًا للعلم والبحث الجاد، تصبح أداة لترسيخ الجهل عندما تُمنح لـ"أبحاث" غير جادّة أو عديمة الفائدة للمُجتمع.
- يحذر الكاتب من تدهور قيمة العلم، وتحوّل النظام الأكاديمي إلى سوق استهلاكية للتفاخر وتعزيز المكانة الشخصية للشخص ومن دون اعتبار لجودة البحث او فائدته للمجتمع او بسبب سعيه للحصول على شهادة الدكتوراه، من أجل الحصول على راتب أعلى، وخصوصًا بعد أن تم ربط الراتب بالشهادة، بغض النظر عن الاستفادة منها!
- يُلمح الكاتب إلى أنَّ هذه الظاهرة تُهدر الموارد (الوقت، المال، الجهود) على أبحاث لا تُسهم في حل المشكلات الواقعية، اجتماعية أو تنموية أو اقتصادية أو علمية أو فكرية أو تطوير المعرفة الإنسانية إجمالًا.
- يتضح من المقال أن الكاتب يطالب بضرورة تشديد المعايير الأكاديمية لمنح الدرجات العلمية، وربط الأبحاث باحتياجات المجتمع؛ لتجنُّب "شهادات الجهل" عن طريق "تغيير الثقافة المجتمعية" التي تُقدِّس الألقاب دون النظر إلى الجوهر، مع التأكيد على أن قيمة الإنسان تكمن في إسهاماته الفعلية، لا في شهاداته.
- من الواضح من ثنايا المقال، أن الكاتب يوجّه نقدًا غير مباشرٍ إلى وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار والجامعات وهيئات الاعتماد الأكاديمي، التي ربما قد تتساهل في منح الشهادات لتحقيق مكاسب مادية أو إحصائية أو دعائية، ليست لها علاقة بتطور المجتمع وصعوده لسلالم التقدم الحقيقي.
إنَّ الإعلام العمودي والأفقي، الرسمي والموازي، يتحمل جزءًا من المسؤولية في تعزيز صورة "الدكتور" كرمز للوجاهة الاجتماعية؛ بدلًا من كونه رمزًا للعطاء الفكري والعلمي والاقتصادي والاجتماعي.
وفي اعتقادي أن هدف الكاتب العقيد المتقاعد عبدالوهاب البلوشي هو إثارة نقاش حول "أزمة أخلاقيات العلم" في المجتمعات العربية؛ حيث يُختزل التعليم العالي في شكليات الألقاب، ويُهمش دور البحث العلمي الحقيقي في تحقيق التنمية الشاملة والمستدامة، والاستمرار في هذه الظاهرة سيؤدي إلى "تآكل مصداقية المؤسسات الأكاديمية" وتراجع ثقة المجتمع في قيمة الشهادات الاكاديمية.
المقالة حسب وجهة نظري، ليست مجرد نقد لظاهرة فردية؛ بل هي "صيحة تحذير" من تحوُّل العلم إلى أدوات للتزيين الاجتماعي، وفقدان دوره الحقيقي في مواجهة التحديات الفكرية والتعليمية والمجتمعية والاقتصادية والتنموية والفكرية التي تواجهنا.
الكاتب يطمح إلى إعادة الاعتبار لشهادة "الدكتوراه الجادة" التي تُبنى على البحث الرصين والإخلاص لخدمة الإنسان وإيجاد حلول لمصائب المجتمعات، وخصوصًا عندما يتصدر المشهد أصحاب شهادات "الدكتوراه" (بلا علم ولا فَهم)، ويقحمون أنفسهم في كل قضية وكل مجال، وهم في الواقع عاجزون عن تقديم ما يُفيد في تخصصهم نتيجةً لجهلهم. شهادات قسم منها ليست معروفة المصادر أصلًا، أو طريقة حصولهم عليها، وقسم آخر يجدون في برامج التواصل الاجتماعي المتكاثرة ضالتهم ليبرزوا أنفسهم.
والكاتب عبدالوهاب البلوشي، ليس أول شخص يتكلم عن "دكتوراه الجهل" في العالم العربي؛ فهناك العالم المغربي المعروف الراحل الدكتور محمد المنجرة، الذي سبقه بسنوات عديدة، عندما استخدم المنجرة مصطلح " دكتوراه في الجهل"، كتعبير ساخر لوصف النخب الفاسدة أو المُثقفين المُزيَّفين الذين يحملون شهادات أكاديمية ولكنهم يفتقدون للوعي الحقيقي والمعرفة الحقيقية والإحساس بالمسؤولية تجاه مجتمعاتهم.
كان الدكتور المنجرة يرى أن هناك من يكتسبون شهادات عُليا، لكنهم في الواقع يُكرِّسون التخلف والجهل، إما من خلال تبعيتهم للفساد أو من خلال غياب الفكر النقدي والإبداعي، في طرح الحلول لمشكلات المجتمع. المختلفة والمتطورة.
الدكتور محمد المنجرة في انتقاداته للأنظمة التعليمية والسياسية في العالم العربي، كان يرى أنَّ التعليم لا ينبغي أن يكون مجرد تحصيل للشهادات؛ بل يجب أن يكون أداة لتحرير العقول والأفكار وتنمية المجتمعات.
والدكتور محمد المنجرة، كان عالمًا ومفكرًا مغربيًا مرموقًا في مجال الدراسات المستقبلية والعلاقات الدولية وعلى مستوى العالم، وعُرف بنقده اللاذع للعولمة الثقافية والهيمنة الغربية على المعرفة، ويُعد أحد أبرز العلماء العرب الذين حذروا من مخاطر التبعية الفكرية والثقافية للعالم الثالث تجاه النماذج الغربية.
إنَّ "دكتوراه في الجهل" تعبيرٌ استخدمه المنجرة بشكل نقدي لوصف ظاهرة تهميش المعرفة العميقة والتحليل النقدي في ظل العولمة؛ حيث تُختزل المعرفة إلى معلومات سريعة وسطحية تُروِّج لأجندات معينة، فهو ينتقد الفكرة القائلة إنَّ الشهادات الأكاديمية (مثل الدكتوراه) تعكس بالضرورة وعيًا حقيقيًا أو التزامًا بالتنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية؛ بل رأى أن بعض النُخب "المُتعلِّمة" تُسهم في تعميق الجهل عبر تبنيها نماذج استهلاكية أو فكرية تُفقر الهوية المحلية وتُعزز التبعية.