مافيا الـ"pay pal"

 

 

الطليعة الشحرية

 

مشهد الولايات المتحدة الآن بقيادة الرئيس دونالد ترامب يُمثل مسرحية هزلية ساخرة لانحدار القوة المطلقة التي سيطرت عقودًا على العالم، نحن أمام أمريكا جديدة وعالم ترامبي ملكي جديد ومهزوز يحكمه مافيا الباي بال.

تلك السياسية الفوضوية وجملة التصريحات الرعناء التي يتشدق بها الملك ترامب بضم كندا وجيرنلاند وقناة بنما والمريخ، وتحولت تلك التصريحات من رأي شخصي يتصدر الترند على منصات التواصل الاجتماعي إلى أجندة سياسية مدعومة من أباطرة وادي السيليكون.

ولا تزال صور اصطفاف أباطرة وادي السيليكون في حفل تنصيب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حاضرة في الأذهان وتعطي مؤشرات ودلالات على حجم ما يحظون به من تقدير فائق، إنهم أصحاب شركات التكنولوجيا الأغنى والأكبر في العالم، جمعتهم صورة مُعبّرة، ظهر فيها كل من جيف بيزوس مؤسس شركة أمازون، وسوندار بيتشاي الرئيس التنفيذي لشركة جوجل، وإيلون ماسك الرئيس التنفيذي لشركتي "تسلا وسبايس إكس"، ومارك زوكربيرج الرئيس التنفيذي لشركة ميتا (المالكة لواتساب وفيسبوك وإنستجرام)، إضافة لحضور كل من سام ألتمان الرئيس التنفيذي لشركة Open Ai (المالكة لتطبيق تشات جي تي بي)، وشوو زي تشو الرئيس التنفيذي "لتيك توك"، ومستثمرين عدة في المجال التكنولوجي.

إنها صورة للجنود الملتزمين بقضيه ترامب الأزلية: "إعادة أمريكا عظيمة مجددًا"، الذين اتخذوا طريقهم نحو هذه الغاية بمساندتهم ترامب، وتعبيد الطريق له ماليًا وتقنيًا للفوز بولايته الثانية. غير أن ترامب يظهرهم في المقدمة ليس لشكرهم فحسب، وإنما ليخبر الجميع أن هؤلاء جزء من الطاقم الموسّع الذي سيحكم معه في ولايته هذه، وهم أيضًا سلاحه الذي سيتحكم من خلاله في الأخبار والمعلومات وصناعة المستقبل.

تلك الصورة الجماعية لعُصبة مافيا الباي بال والرئيس السمسار لأكبر قوة مهيمنة يعلنون رسميًا صناعة عالم جديد الغلبة فيه للفاشية التكنولوجيّة وأفول العصر الذهبي للولايات المتحدة التي وضع أُسسها فرانكلين روزفلت في مؤتمر يالطا في 1945م؛ حيث انعقد اجتماع في منتجع روسي في شبه جزيرة القرم أثناء الحرب العالمية الثانية.

وفي يالطا، اتخذ الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت ورئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل ورئيس الوزراء السوفييتي جوزيف ستالين قرارات مهمة بشأن التقدم المستقبلي للحرب والعالم بعد الحرب، وعلى إثرها بزغ عالم "البترودولار" وربط النفط بعُملة الدولار الأمريكية وإنشاء صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والأمم المتحدة، وهنا تم الإعلان الضمني لصعود وهيمنة قوة استعمارية جديدة ونظام اقتصادي أحادي القطب.

لم تستخدم أمريكا نظرية الاستعمار المعهودة بالاستيلاء على الأرض واستغلال الثروات على غرار الإمبراطورية الإمبريالية البريطانية، بل استحدثت نظرية جديدة للاستيلاء على العالم وذلك بالاستيلاء على الممرات المائية العالمية البحرية، لذا نجد اليوم انتشار أكثر من ألف قاعدة بحرية أمريكية في أهم الشواطئ العالمية. لقد حكمت الولايات المتحدة على العالم بالبترودولار وصندوق النقد الدولي والسيطرة على الممرات المائية. وسيطرت المنظومة الأمريكية أحادية القطب على الاقتصاد العالمي إلى أن طرق جورج بوش الابن مسمار الانحدار الحقيقي لهذه المنظومة بحروب عبثية وهمية على الإرهاب المدعوم من لوبي مجمع تصنيع السلاح في الولايات المتحدة الأمريكية.

وتؤدي جماعات الضغط المعروفة بـ"اللوبيات" دورًا حاسمًا في رسم ملامح السياسات العامة الداخلية والخارجية للولايات المتحدة. كما تمثل أنها مؤسسات من قطاعات مختلفة مثل الشركات الكبرى والجمعيات المهنية والمنظمات غير الربحية، التي تسعى لفرض سيطرتها على صناعة القرار باستعمال قوة المال بدرجة أولى، وعبر وسائل التأثير على الرأي العام. ولهذا السبب، منذ فترة طويلة، وصف الرئيس دوايت أيزنهاور، الذي كان جنرالًا بخمس نجوم قبل توليه الرئاسة، الإنفاقَ العسكرية بأنه سرقة، وهم القوة التدميرية الأكثر تجاهلًا في العالم، أنها القوة التي سببت العديد من المشاكل الكبرى في الولايات المتحدة والعالم اليوم. وقد حذّر أيزنهاور الأمريكيين منها في خطبة وداعه في العام 1961، حين أطلق عليها للمرة الأولى اسم "المجمع الصناعي العسكري".

ومُواكبة للمجمع الصناعي العسكري الثورة الاصطناعية والذكاء الاصطناعي، وَقَع تحالف وتعاون بين شركات صناعة الأسلحة وشركات التكنولوجيا في وادي السيلكون لإنتاج أنظمة وأسلحة أكثر تقدمًا، تشمل روبوتات وحوسبة سحابية وتحليل البيانات الضخمة وأسلحة ذاتية التشغيل وذلك نتيجة لزيادة المنافسة مع الصين وروسيا على امتلاك تقنيات متطورة وثورية؛ مما دفع وزارة الدفاع الأمريكية "البنتاجون" للاستثمار في التكنولوجيا المتقدمة وتقاطعت المصالح مع حاجة وداي السيليكون لتمويلات ضخمة.

لذا يمكن لنا أن نفهم دلالات إعلان الرئيس ترامب عن استثمار القطاع الخاص ما يصل إلى 500 مليار دولار لتمويل البنية التحتية للذكاء الاصطناعي في ثاني يوم من استلامه منصبه. كما قام الرئيس الأمريكي بفرض رسوم جمركية بنسبة %25 على جميع واردات الصلب والألومنيوم إلى الولايات المتحدة دون استثناءات أو إعفاءات.

ورغم أن الولايات المتحدة تحصل على معظم وارداتها من الصلب من كندا والبرازيل والمكسيك، إلّا أن الرسوم الجمركية تستهدف الصين إلى حد كبير، وإن كان ذلك بشكل غير مباشر. وفرض جمركية جديدة بنسبة10% على الصادرات الصينية؛ مما دفع الصين إلى اتخاذ تدابير انتقامية شملت تحقيقات لمكافحة الاحتكار، وفرض رسوم على واردات أمريكية، وتشديد قيود التصدير على معادن حيوية والتي تُسيطر الصين على 90% منها.

منع الولايات المتحدة الصين من الحصول على النانو تكنولوجي والذكاء الاصطناعي، دفع الصين الى الرد بالمثل ومنعت المعادن النادرة التي تمثل عصب التصنيع في التكنولوجيا المتطورة. وسنجد هذه المعادن النادرة في جرينلاند، وجنوب أفريقيا، والكونجو، وزيمبابوي، وأوكرانيا. وهذا ما يفسر تصريحات غير منطقية بضم جرينلاند والاستيلاء على مخزون أوكرانيا من المعادن النادرة مقابل فاتورة الحرب مع روسيا، والتلويح باتهام جنوب أفريقيا بالعنصرية ضد البيض.

كل من يطوق الرئيس الأمريكي دونالد ترامب واللوبي الرئيسي الداعم في الانتخابات الأمريكية وصاحب اليد العليا في وضع الأجندة السياسية الجديدة، هم أعضاء مافيا الـpay pal (باي بال) والتحالف الخفي بين عمالقة وادي السيليكون و"المجمع الصناعي العسكري".

وشراكة المؤسسة العسكرية القديمة مع أباطرة وادي السيلكون الشريان الأكثر نبضًا وحيوية في الولايات المتحدة الأمريكية وتحالف أباطرة التكنولوجيا مع ترامب الملك العائد بروح المنتصر المنتقم، تمخض كل ذلك في مشهد هزلي ساخر لملك سمسار نرجسي استعراضي يثير الجدل ويُحقق أطماع وجشع أباطرة التكنولوجيا الفاشيين وتجار المصنع الدموي العسكري.

لم تكن رؤية إيلون ماسك في غرفة الرئيس الأمريكي البيضاوي بقبعته المُميزة وملابسه غير الرسمية، وابنه المشاغب متدلٍ من عنقه، تجعل منه الرمز الأكثر إثارة في هذا المشهد، عندما تم إغلاق الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية. وقف ماسك أمام الصحافة بنبرة متعجرفة ساخرة ليؤكد أن إغلاقها كان قرارًا صائبًا، وبينما كان ابنه "إكس" يمازح الرئيس ترامب قائلًا: "أنت لست الرئيس، عليك المُغادرة"، لم يجد ترامب إلا أن يبتسم ابتسامة متكلفة أثناء توقيعه على مرسوم إغلاق الوكالة.

هذا المشهد يُعلن بزوغ عُصبة ونظام عالمي جديدة جشع احتكاري مُتخبِّط وفوضويّ ويعلن بكل جدارة انهيار العصر الذهبي الذي بناه روزفلت وظهور فرصة ذهبية يجب اقتناصها وكسر الحصار والاحتكار الاقتصادي والتحرر من المنظومة المُنحدرة المُنشغلة بحروب داخلية مع مُؤسساتها وأذرعها وخلق تحالفات وتكتلات اقتصادية ومؤسسات نقدية وعسكرية تكاملية تخترق الطوق والحصار.

الأكثر قراءة