علي بن مسعود المعشني
وضعت الحرب على غزة أوزارها الغليظة، وأسدل الستار على فصل من فصول الملاحم العربية مع العدو الصهيوني ورعاته، وعادت قضية فلسطين إلى مكانتها اللائقة، كقضية محورية للعرب والمسلمين وشرفاء وأحرار العالم.
الهدنة أو اتفاق وقف إطلاق النار، قد لا يعنيان استراحة مُحارب في صراع بحجم قضية فلسطين؛ بل تحفز الخير والشر لجولات صراع حاسمة أبعد من ذلك بكثير. لكننا اليوم، وبلغة الحروب، سنقف عند مقاييس النصر والهزيمة ومنسوبهما في تفاصيل وخاتمة "طوفان الأقصى" المبارك، هذا الطوفان الذي أعاد الروح إلى أمة عربية عصية على الهزيمة في حالات قوتها وفي حالات ضعفها كذلك.
نُعيد تذكير الذاكرة العربية المُثقلة والمُشبعة بالهزيمة النفسية، بأنَّ الصراع بيننا وبين العدو هو صراع وجود، لا صراع حدود ولا تمكين كيان غاصب في جسد الأمة بذريعة الغلبة التاريخية، أو الأمر الواقع لاختلال موازين القوة؛ فاحتلال فلسطين ليس ملفًا سياسيًا تتم تسويته بالمفاوضات والبيانات والقرارات الأممية؛ بل مشروع غربي احتلالي للأمة بأسرها عبر بوابة فلسطين أولًا. ومن أراد الدليل والبرهان، فعليه تفحص ترجمة العدو ومفهومه ومقاصده لاتفاقيات ما سُمي بـ"السلام" مع كلٍ من مصر والأردن، ليتقين بأنها أدوات اختراق ناعمة وعميقة للعدو في تلك الأقطار، بإطار دبلوماسي فاخر وغير مسبوق، وبأعراف دبلوماسية نُسجت على مقاس الكيان الصهيوني ومخطط رعاته؛ حيث لا ينطبق على الكيان ولا تسري عليه أي قاعدة من المنظومة الدولية للعلاقات الدبلوماسية بين الدول، ولا القرارات الدولية بشأن الحروب ولا الصراعات والخلافات بينها.
وحين نتجاوز هذه الحقيقة الصارخة ونستعيد غيرها، علينا تذكر سر الدلال المفرط للكيان الصهيوني من قبل الغرب، وسر بخسهم لأبسط حقوق الأقطار العربية في التنمية والنمو وتلمُّس أسباب القوة المادية أو البشرية، وبما يفسرونه بأنه مُهدد للأمن القومي للعدو ومعيق لمخطط سيطرته وتفوقه على العرب، وسيادته الاقليمية عليهم؛ حيث أستفتح هذا الكيان هويته باغتيال العلماء والمشروع المصري الطموح لتملك العرب للسلاح النووي في عهد الزعيم الخالد جمال عبدالناصر، ثم تدمير مفاعل تموز العراقي السلمي عام 1980م، وحصار ليبيا بذريعة مشروعها النووي ومصنع الرابطة الكيماوي، ثم قيام الراعي الأمريكي وتكفُّله بحصار وتدمير أي نظام عربي فاعل يقف في وجه المخطط الصهيوني ومشروعه للتمدد في جغرافية الأمة انطلاقًا من فلسطين المحتلة.
كثيرة هي الشواخص والأمثلة على الدور الحقيقي للعدو الصهيوني في قلب الأمة لأولي الألباب، ولكنها كانت مُبطنة بواجهات سياسية ومواجهات عسكرية تخفي الهدف الحقيقي للكيان ووظيفته.
تأتي غزة العزة اليوم لتضع أمام الأمة والعالم حقيقة الكيان الصهيوني ومهمته ووظيفته، ولتُعيد برمجة العقل العربي المُحاصر والوعي العربي المُغيب، حقيقة هذا الصراع وخطورة سرديات العدو وهشاشتها حين اختُبرت في الميدان. ولم تكتف غزة بذلك؛ بل أوصلت للعالم هذه الحقيقة وأعادت للإنسانية قيمها المفقودة منذ زمن بعيد.
لن تشغل العالم بعد اليوم قضية تحمل كل قيم الإنسانية والفطرة الأولى كقضية فلسطين، ولم تعد قضية إلى الإنسانية وجهها القيمي المسلوب كقضية فلسطين، فمنذ اليوم عثرت الإنسانية السليبة على بوصلة اهتداء فقدتها في زخم التشويه وسرديات الزيف، لعقود خلت، فوجدت في فلسطين ومن فلسطين هذه البوصلة المفقودة، لتصبح فلسطين بعد اليوم نصاب حق وشهادة مدوية في وجه الظُلم والظلمة، وتصويب لمسار الضمير الإنساني المتعطش للحق والحقيقة ونُصرة المظلوم.
قبل اللقاء.. لو لم تتمكن غزة من تحقيق أي انتصار سوى بعث هذه الحقائق، لكانت كافية للأمة وللأجيال العربية الحالية القادمة لتصويب الفكر والقناعات والمسار.
وبالشكر تدوم النعم.