علي بن مسعود المعشني
ali95312606@gmail.com
العقلية الاستعمارية لا تعرف السكينة ولا الهدوء، خاصة تجاه مُستعمراتها السابقة، كما لا تعرف العقلية الاستعمارية السيادة ولا النِّدية في علاقاتها مع الآخر، ولا تحترم مصالح الآخرين. والاستعمار الفرنسي أقذر ما ابتُلِيَت به البشرية المُعاصرة في تعامله وحروبه وجرائمه النكراء والتي تفوق جميع الاحتلالات على الإطلاق.
العقلية السياسية الفرنسية والعقيدة العسكرية الفرنسية لا تُقيمان أي وزن للإنسان ولا للقيم ولا الأخلاق ولا الحريات ولا الحقوق في تعاملها مع الآخر الذي لا يشبهها، رغم ضجيجها بقيم "الثورة" الفرنسية وتشدقها بتاريخها. وفي عام 1830م، قام القنصل الفرنسي بزيارة الداي حسين الوالي العثماني على الجزائر، وكانت الجزائر حينها خاضعة لحصار بحري فرنسي منذ عام 1827م، وطلب منه على ما يبدو نفوذًا فرنسيًا في الجزائر، فاشتد النقاش بينهما حتى غضب الوالي ورمى مروحة بيده في وجه القنصل الفرنسي، فوجدتها فرنسا ذريعة لغزو الجزائر واحتلالها، وكانت الجزائر حينها في أوهن حالاتها العسكرية بعد دعم أسطولها البحري للعُثمانيين في حروبهم وخسارتهم لجزء كبير من هذا الأسطول الأسطوري، علمًا بأنَّ غزو الجزائر واحتلالها من قبل فرنسا مُخطط له من عهد نابليون.
دخلت جحافل الجيوش الفرنسية الجزائر وتوسع احتلالها تدريجيًا من السواحل إلى العمق، وقاوم الجزائريون ذلك الاحتلال طيلة وجوده، وفقدوا 10 ملايين شهيد إلى حين تحقق لهم النصر على يد آخر الثورات، ثورة جبهة التحرير الوطني الجزائرية (1 نوفمبر 1954م – 5 يوليو 1962م). "الغريب" أنَّ هذا الاحتلال وغيره خرج بموافقة صريحة ومباركة وبإجماع من تحت قبة البرلمان الفرنسي، ممثل "الشعب" و"سليل" ثورة القيم والحرية والعدالة! خروج فرنسا من مستعمراتها لم يكن بلا ثمن أو مقابل بكل تأكيد؛ بل باتفاقيات وملاحق سرية وعلنية مُحدَّدة بمضامين وزمن، جعلت من استقلال تلك المُستعمرات ناقصاً وتحريراً ناقصاً كذلك، وكانت المساومة الفرنسية بقدر وجعها من مقاومة هذا الشعب أو ذاك؛ حيث أجبرت فرنسا 14 دولة من مستعمراتها السابقة على التعامل بالفرنك الفرنسي، ووضع مدخراتها في البنك المركزي الفرنسي، مع شرط السماح لها باستغلال مناجم الثروات الطبيعية ونهبها في تلك البلاد، الأمر الذي وضع فرنسا في خانة أعلى الاحتياطيات في العالم من بعض المعادن الثمينة كالذهب مثلًا، وهي لا تنتج جرامًا واحدًا منه على جغرافيتها!
كلما جاعت فرنسا فكّرت بالعودة إلى عقلية ومخططات استعمارها القديم مع فارق الزمن والوسائل. واليوم فرنسا جائعة بحق، وتحاصرها بذور الفناء، خاصة بعد استنزافها بدعم أوكرانيا ثم طردها وتهديد مصالحها في دول الساحل والصحراء وغرب القارة الأفريقية. لهذا تبحث فرنسا اليوم عن فريسة تنقض عليها بلغة اليوم ووفق الأجندة الغربية المعاصرة للنيل من البلدان وسيادتها وتطويعها ترهيبًا وترغيبًا. جزائر اليوم ليست جزائر الداي حسين بكل تأكيد؛ فهي دولة عصرية تمتلك كل عناصر القوة البشرية والعسكرية والاقتصادية والنفوذ السياسي، لهذا لن يجرؤ الفرنسي على مواجهتها؛ بل سيسعى للغدر بها وبمساعدة الجوار الجزائري والناتو معًا. لهذا سيبحث عن أي ذريعة للحصار الاقتصادي أولًا، بقصد إجهاد الدولة وتحللها تدريجيًا، وكما حدث للعراق وليبيا وسوريا؛ حيث نجحت الحصارات الغربية في بلوغ مراميها وبأيادٍ عربية للأسف الشديد، لهذا ما يزال مخطط الحصار ناجحًا ومؤثرًا جدًا في زمن الانحطاط الرسمي العربي.
لا شك أنَّ الجزائر مستعدة جيدًا لهذا السيناريو، ولديها العديد من الأوراق الوقائية والمقاومة لإفشاله أو الحد من تأثيره؛ منها التلويح بورقة الغاز الجزائري وقطع إمداداته إلى عدد من العواصم الأوروبية وعلى رأسها مدريد (المستفيد الأول والأكبر من الغاز الجزائري). ولعل ذلك يُفلح في موقف إسباني شبيه بالموقف الايطالي من حصار ليبيا في قضية لوكيربي الشهيرة؛ حيث استخدمت روما الفيتو؛ كونها تعيش وتقتات على النفط الليبي؛ فاستمر تدفق النفط الليبي بسلام إلى إيطاليا طيلة سنوات الحصار الغربي. كما يمكن للدبلوماسية الجزائرية بنفوذها إحداث اختراقات في جدار الحصار من قبل دول الجوار وأصدقاء الجزائر في الاتحاد الأفريقي ومنظومة عدم الانحياز. وإذا غُلبت الروم وبلغت الحلقوم، فمن غير المُستبعد أن تقوم الجزائر بنقل المعركة إلى قلب باريس، وكما كان عليه الحال إبان ثورة التحرير؛ حيث أجبرت الثورة الجزائرية فرنسا على التفاوض بعد نقل المعركة إلى قلب باريس.
قبل اللقاء.. شخصيًا لا أعترف بالثورة الفرنسية بأنها ثورة قيم وحرية وعدالة؛ فالتاريخ المتداول يقول إنها ثورة جياع ينشدون الخبز، واقترحت عليهم ماري أنطوانيت باستفزاز أن يأكلوا البسكويت بديلًا عن الخبز!! فخرجت الجماهير للشارع، وبقيت ما تسمى بـ"الثورة" بلا قيادة ولا مشروع ولا هدف، طيلة سبعة عشر عامًا!
وبالشكر تدوم النعم.