أ.د. حيدر بن أحمد اللواتي **
قد يتساءل البعض ما الذي يدفع بعض العلماء إلى الإقدام على تغيير جينات الكائنات الحيّة، ودون خشية من حدوث ما لا يُحمد عقباه، والجواب لا شك في أن الفضول العلمي يشكل أحد الدوافع المهمة لهم، لكن بالمقابل، هناك عدد من هؤلاء العلماء والكثير من الفلاسفة الماديين يؤمنون بأن الطبيعة عمياء ولا موجه لها، ولهذا فالكائنات الحية الموجودة إنما هي نتيجة لصدف عشوائية، وليس لتخطيط إلهي موجه، ومن هنا فإن جميع الكائنات يمكننا تعديلها وتغييرها نحو الأفضل وتحسين أدائها، وإذا أمكننا القيام بذلك فإن ذلك يعني صحة نظرياتهم المادية والتي تنفي وجود خالقٍ خلقَ الخلقَ بأحسن صورة وأقوم هيئة.
وبعض الماديين يرى أن الهدف النهائي لهذه البحوث هو الوصول إلى خلق كائن حي من مادة غير حية تماما، فالسؤال الذي كانت البشرية تبحث عن إجابة له وهو كيف بدأت الحياة على كوكب الأرض، يبدو أنه سؤال صعب جدا ولا يمكننا الوصول إلى إجابة واضحة له، لكنهم يرون أن الهدف من كيفية نشأت الحياة على كوكب الأرض هو محاكاة الطبيعة ومحاولة خلق الحياة بنفس الطريقة التي تم فيها خلق الحياة من قبل، وهؤلاء يرون أن تصنيع الحياة وخلقها أمر ممكن القيام به من خلال الغوص في بحوث علم الأحياء التخليقية دون الإجابة عن سؤال كيف بدأت الحياة، فبغض النظر عن كيفية نشأت الحياة على الأرض فإن بإمكاننا أن نخلق الحياة من خلال هذا العلم.
ويرى هؤلاء، بأن قدرة الإنسان على خلق كائن حي من مادة لا حياة فيها، سيثبت بأن خلق الكائن الحي لا يحتاج لقوة غيبية، فالإنسان يمكنه القيام بذلك، وبذلك فإن المؤمنين بوجود إله خالق للحياة والذين يتمسكون باستحالة قيام الإنسان بذلك سيسقط ما بأيديهم من دليل.
ويقف على الضفة الأخرى، المؤمنون بوجود قوة غيبية خالقة مهيمنة على الكون كله، لكن هؤلاء يختلفون في نظرتهم لهذا العلم وفلسفته، فالبعض يقف موقفا سلبيا من علم الأحياء التخليقية برمته، لأنه يرى أن الله تعالى خلق الكائنات الحية المختلفة بأكمل صورة ممكنة، وأنها وجدت لتؤدي أغراضا معينة تتوافق مع مهامها الموكلة إليها، ولذا؛ فإن أي تدخل في هذه الكائنات الحية وتغيير وظائفها وطبيعتها يعد جريمة وتحريفا للمسار الإلهي الذي خطط لهذه الكائنات الحية، فنحن هنا لا نتحدث عن تغييرات بسيطة في الخارطة الوراثية بل نتحدث عن تغييرات كبيرة تؤدي لتغييرات في الوظائف التي يمكن لهذه الكائنات الحية القيام بها؛ بل يسعى هذا العلم في بعض صوره لخلق نظم بيولوجية لا وجود لها كما اتضح لنا ذلك.
وهناك من قد يقف موقفًا وسطًا، فيرى أن الله -سبحانه وتعالى- أعطى للإنسان هذه القدرات الهائلة والإمكانات الكبيرة ليتعرف على عظمة القدرة الإلهية في هذا الكون، ولذا؛ فلا بُد له وأن يفتح له المجال للقيام بذلك ليتعرف عن كثب على تلك القدرة الإلهية ويتعرف على النظم الإلهية المودعة في هذا الكون، لأن هذا العلم دليل واضح وقوي على وجود نظم دقيقة في هذا الكون حتى على مستوى الخلايا الحية؛ فهناك نظام معلوماتي وبرمجة دقيقة، تشكل اللغة التي من خلالها يمكن هندسة الكائنات الحية، وهذه الهندسة والنظام المعلوماتي يناقض فكرة العشوائية تماما بل يدل دلالة قطعية على وجود إله قام بخلق الخلق بنظام دقيق وبرمجة معقدة، وأودع في الإنسان قدرات عقلية وذهنية هائلة تمكنه من إجراء التغييرات فيها بحيث تؤدي لنتائج معينة.
هذا كله دليل على وجود منظم لها، فلا يمكن أن يوجد نظام ولا يوجد منظم أوجده وأقام النظام وشيده، وعليه فخلافا للرؤية المادية، فإن الأحياء التخليقية هي دليل آخر على وجود إله خالق مهيمن بقدرته وجبروته على الكون بكل أجزائه الحية منه وغير الحية، لكن طبيعة المادة وجميع نظمها المرتبطة بها نظم تدافعية، فلا يمكن لأي نظام مادي أن يكون متكاملا، فالمادة بطبيعتها مفتقرة للكمال، وما يقوم به الإنسان عندما يطور في جهة معينة تلك النظم المادية، فإن جوانب سلبية أخرى تبرز فيها، فالنظم المادية بطبيعتها لا يمكن أن تكون كاملة من كل الاتجاهات.
وقد يتساءل البعض عن الفوائد التي ستجنيها البشرية من القيام بهذا النوع من الأبحاث والتي تسعى الى إجراء تغييرات أساسية في الكائنات الحية، فهل الفضول العلمي والتعرف على أسرار المادة في هذا الكون بأشكالها المختلفة يعد سببا كافيا للقيام بذلك، أم أن أسبابًا أخرى تدفعنا للقيام بذلك. وهذا ما سنسلط الضوء عليه في مقالتنا المقبلة.
وللحديث بقية.
- سلسة من المقالات عن تاريخ علوم الحياة وحاضرها وفلسفتها والتقنيات القائمة عليها
** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس