ماذا نفعل عند اختلاف آراء خبراء التغذية؟


 

أ. د. حيدر أحمد اللواتي**

تُعد بعض التخصصات العلمية من أعقد مجالات المعرفة التي يسعى الإنسان لفهمها، خاصة عندما تتداخل فيها متغيرات كثيرة يصعب التحكم بها أو عزلها، وهذا التعقيد يجعل الوصول إلى نتائج دقيقة أمرًا شاقًا، ويزيد من احتمالية وجود تفسيرات متنوعة ومتناقضة، وفي ظل هذا الواقع، تتطلب دراسة هذه العلوم المعقدة، نهجًا دقيقًا ومتوازنًا يجمع بين الملاحظة العلمية والتمحيص النقدي، مع قبول احتمالية وجود اختلافات في الرأي بين المختصين.

وتعد علوم التغذية من أبرز الأمثلة على ما أسميناه بالعلوم المعقدة وأكثرها صعوبة، وأحد الأسباب هو صعوبة السيطرة على المتغيرات أو التحكم فيها لكثرتها وتنوعها، فمثلا عندما تتم ملاحظة أن الأفراد الذين يتناولون المياه الغازية عادة يواجهون صعوبات صحية وربما يصابون بعدد من الأمراض، فإن الدراسة عادة تقوم على الملاحظة وليس على التجربة، إذ يقوم الباحث بمتابعة عينات كبيرة من الأفراد الذين يكثرون من تناول المشروبات الغازية ويقارنون بينهم وبين الآخرين الذين لا يتناولون المشروبات الغازية، لكن العديد ممن يتناولون المشروبات الغازية بكثرة قد تكون لهم عادات غذائية أخرى سيئة، كأن يكثروا من تناول الوجبات السريعة أو لا يهتمون بممارسة الرياضة، وبالمقابل، فالممتنعون عن تناول المشروبات الغازية عادة يكونون من الأشخاص الذين يهتمون بصحتهم ويمارسون العادات الصحية في حياتهم اليومية.

 ولذا، لا بد للباحث من أن يقوم باستخدام عدد من النماذج الإحصائية ووضع عدد من الفروض للوصول الى نتيجة معينة، وكثيرا ما يصل الباحث إلى نتيجة مفادها وجود علاقة تلازم ولا يستطيع أن يجزم بوجود علاقة سببية بين تناول المشروبات الغازية وبين الصعوبات الصحية، كما أن تغيير بعض هذه الفروض ربما يولد نتائج مغايرة تماما.

ولذا كثيرا ما تظهر فجوة واسعة بين آراء المختصين، فعلى سبيل المثال، يؤكد البروفيسور والتر ويلت من جامعة هارفارد أن نقص بعض المكملات الغذائية كالفيتامينات والمعادن قد يسبب أمراض القلب والسرطان، ويشير إلى دور البيتا كاروتين في الحفاظ على الذاكرة عند كبار السن، وفي المقابل، ترى الدكتورة نينا شابيرو من جامعة كاليفورنيا أن الدراسات تثبت أن المكملات الغذائية لا تقلل من معدلات الإصابة بهذه الأمراض، بل أن الإفراط في فيتامين إي قد يزيد خطر الإصابة بالسرطان، وتشير إلى دراسة على آلاف الرجال لم تظهر تحسنًا في الذاكرة باستخدام المكملات الغذائية.

الخلاف يمتد أيضًا لموضوع مضادات الأكسدة؛ فالدكتورة نينا تشدد على غياب الأدلة العلمية التي تدعم فاعليتها في مكافحة الأمراض، بينما يرى ويلت أن مضادات الأكسدة مثل فيتامين إي تسهم في الوقاية من انسداد الشرايين، لكنه يشدد على أن الفوائد تأتي من تناولها في الأطعمة الطبيعية كالخضراوات والفواكه وليس كمكملات غذائية.

وهناك أمور أخرى يختلف فيها علماء التغذية مثل تقييم خطورة الإكثار من اللحوم الحمراء، والزيوت المفضلة للطبخ في درجات حرارة عالية، والأغذية العضوية مقابل التقليدية، إذ يرى بعض خبراء التغذية أن هناك فوائد صحية محتملة للأغذية العضوية بسبب قلة بقايا المبيدات، بينما يرى آخرون أن الفروق الغذائية بينهما ضئيلة وأن تناول المزيد من الفواكه والخضروات، سواء كانت عضوية أو لم تكن، هو الأمر الأهم، ونجدهم يختلفون أيضا في موضوع الصيام المتقطع، إذ يشيد به بعض الخبراء لفوائده في إدارة الوزن وتأخير الشيخوخة، لكن آخرين يحذرون من أن فترات الصيام الطويلة قد لا تناسب الجميع وقد تؤدي إلى نقص في العناصر الغذائية أو اضطرابات في الأكل.

وبالمقابل، يمكننا أن نلاحظ في مثل هذه العلوم المعقدة أن هناك أمورا اتفق عليها الجميع، فمثلا لا يختلف اثنان على أهمية تناول كميات جيدة من الألياف الموجودة في الخضراوات بشكل يومي، كما أنهم لا يختلفون على أهمية تناول البروتينات النباتية وكميات معتدلة من البروتينات الحيوانية، بالإضافة إلى أهمية تناول الكربوهيدرات المعقدة، وتناول كمية محددة من الزيوت غير المشبعة، كما أنهم يشجعون على تناول كميات من المكسرات ويتفقون على أهمية تجنب أو تناول كميات محددة جدا من الملح والسكر والطحين الأبيض، ويؤكدون أن الخمول وقلة الحركة لهما ضرر بالغ، ولهذا، لا بد أن يرافق الغذاء الصحي نشاط حركي يومي.

وهكذا نلاحظ في هذه العلوم المعقدة، أمور يتفق عليها أهل الاختصاص وأمور أخرى يختلفون في تفسيرها وتقييمها، والسؤال الذي قد يتبادر في الذهن كيف نتعامل مع هذه الاختلافات؟ ورأي من نأخذ؟ وخاصة أن بعض هذه الآراء متضاربة ومتناقضة.

لا شك أن هذه الاختلافات تشكل تحديا كبيرا وخاصة مع قناعتنا بأهمية التغذية وأثرها على صحة الانسان، ولذا يرى الكثيرون من خبراء التغذية أن علينا الالتزام بالنصائح والإرشادات المتفق عليها وعدم الاستهانة بها، أما النصائح المتباينة فيجب التعامل معها بحذر ومرونة في نفس الوقت، وعدم التشدد في الأخذ بها، بحيث يمكن تغييرها بسهولة متى ما توفرت أدلة مضادة، مع بذل بعض الجهد في الاطلاع على الآراء المختلفة والتحقق من صحة طريقة التفكير التي استخدمها الباحث، كأن نبحث مثلا عن حجم العينة وتنوعها، كما أن استشارة بعض المتخصصين الموثوقين يمكن أن تسهم بصورة جيدة في توضيح الأمور، وفي نهاية المطاف عليك أن تختار من بين تلك الآراء ما يتناسب مع قناعتك وظروفك الشخصية، فهذه العلوم معقدة وطبيعة الأدلة المتوفرة لن توصلنا إلى معرفة جازمة أو نتائج حاسمة.

**كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس

 

الأكثر قراءة