د. محمد بن عوض المشيخي **
أثمن وأغلى ما في هذه الحياة هي حرية التعبير التي تعد مقياسًا حقيقيًا للعلاقات السليمة بين السُلطة الحاكمة في أي بلد والفرد أو المجتمع الذي يعيش في كنف تلك السلطة التي تُشرِّع له القوانين وتُنظِّم له مختلف أوجه الحياة؛ كالحقوق المدنية التي يجب أن يكتسبها ويتعرف عليها، وكذلك الواجبات المُلزمة والحدود التي يجب أن يُدركها الجميع من الرعية نحو الوطن، والتي تُشكِّل من وجهة نظر الحكومة "الخطوط الحمراء" التي لا يجب أن يتجاوزها المواطن الصالح، حتى وإن كان المجتمع يمثل الحلقة الضعيفة على وجه الخصوص في المجتمعات التي يُعتقد بأنها غير قادرة على التفريق بين الحق والباطل، وبالتالي تقوم الحكومات بالتصرف نيابة عن الشعب.
وإذا كان حديثنا الذي بدأ بحرية التعبير الذي هو اشمل واعم من الحريات الأخرى التي تعد فروعًا لها، فإن التركيزهنا سوف يتمحور حول حرية الإعلام، وخاصة الصحافة التي هي في الأساس رسول المظلومين وضمير الانسانية؛ لما تتحمله من مسؤوليات كبيرة عن تنوير الناس وتعريفهم بحقوقهم؛ بل في الوقوف أمام المتسلطين عبر التاريخ؛ فالصحفي الحر مثل الشمعة التي تحترق من اجل تُضيء الدروب المظلمة للجماهير. بدايةً بنضال الأوائل من المؤسسين الذين تزامن ظهورهم مع الصحافة في أوروبا أمثال جان جاك روسو مؤلف كتاب "العقد الاجتماعي" الذي يُعد من أهم كتاب عصر التنوير في فرنسا. ومن المؤسف حقًا أن نجد عددًا قليلًا من حكومات العالم لا يتجاوز عددها أصابع اليد الوحدة التي تحترم حرية الصحافة في هذا العالم المترامي الأطراف؛ فأكبر كذبة سمعتُها هي الزعم والافتراء بأن هناك سلطة رابعة اسمها الصحافة، خاصةً في المجتمعات النامية التي يُفترض أن يُراقب فيها الإعلام كل السُلطات، خاصة السلطة التنفيذية، فضلًا عن السلطتين التشريعية والقضائية. وفي حقيقة الأمر هناك صراع أبدي بين الحكومات والإعلام والأخير هو الضحية.
الفكرة التي أريد إيصالها للجميع عبر هذه السطور هي القوانين والأنظمة التي وُضِعَت لحماية الصحفي، والتي تستمد قوتها من الدساتير الموضوعة للأمم، وسرعان ما قد يتم تجاوزها عندما تشعر السلطات بأنها في خطرٍ يُهدد وجودها؛ فتجد الكل يتجاهل القوانين والتشريعات التي وُضِعت في وقت السلم والوئام.
فعلى سبيل المثال، اضطرت بعض الحكومات في الشرق الأوسط في أعقاب "الربيع العربي" إلى إغلاق صحفها المشاغبة وتقييد حرية الصحفيين، دون النظر إلى نصوص قوانين الإعلام التي لا تُجيز مصادرة حرية الصحافة إلّا بأمر قضائي.
في المقابل، عرفت سلطنة عُمان عبر تاريخها 3 تشريعات تُنظِّم العلاقة بين الحكومة والإعلام، وإن كان القانون الأول الذي صدر في عام 1975 يتضمن 55 مادة، وقد مَنحت المادة رقم (9) من قانون المطبوعات والنشر لوزير الإعلام صلاحيات واسعة في إيقاف إصدار الصحف ومصادرتها دون الرجوع إلى أي سلطة قضائية، لكن لم يكن القانون الثاني الذي يحمل رقم (49/ 1984) والذي صدر في فترة الازدهار الاقتصادي والاستقرار الأمني للبلاد أفضل حالًا مما قبله، على الرغم من استمراره أكثر من 40 سنة.
لكن يجب الاعتراف بأنه خلال السنوات الأخيرة شهدت الصحافة العُمانية وكذلك الإعلام الإذاعي الخاص حريةً نسبيةً معقولةً لا تقل عن غيرها من دول الخليج العربية؛ بل أزعم أننا افضل حالًا من جيراننا في سقف الحرية، التي هي في واقع الأمر تعود بشكل كبير إلى الإرادة السياسية، وليس للقوانين المنظمة للإعلام فقط. وهذا لا يعني بأي حال من الأحوال أن جميع أمورنا على ما يرام؛ بل في الواقع هناك بعض المقالات وكذلك برامج إذاعية قد تم إيقافها خلال السنوات الماضية، رغم أن ذلك لم يتم إلّا على مستوى ضيق، وقد تكون هناك مُبرِّارات للرقابة الذاتية، وكذلك لمقص الرقيب من وجهة النظر الرسمية.
وقبل أسبوع، صدر قانون الإعلام الجديد بعد طول انتظار امتد لاربع عقود، وتضمن القانون 60 مادة، وحملت المادة رقم (3) العديد من النقاط المُهمة التي نتوقع منها- إذا ما تم تطبيقها بحسن النية من المسؤولين- أن يكون لها الأثر الطيب في حل مشكلة مُزمِنة تتمثل في الحق في الحصول على المعلومات من مصادرها، وتداولها بشكل مشروع، كما إن حرية الرأي والتعبير باستخدام وسائل الإعلام قد أقرها القانون الجديد كحق مكتسب لا لبس فيه، وهذا تطور إيجابي كبير. والأهم من ذلك كله حق الصحفي الاستقصائي، الحفاظ على سرية مصادر المعلومات التي يحصل عليها، فقد نصت المادة (21) على أنه "لا يجوز إجبار الإعلامي على إفشاء مصادر أخباره أو معلوماته، وذلك دون الاخلال بمقتضيات الأمن الوطني، والدفاع عن الوطن".
وتزامنًا مع نشر القانون الجديد، تواصلتُ مع الزملاء رؤساء التحرير ومديري الإذاعات الخاصة الذين تربطني بهم علاقات عمل، واستطلعت وجهات نظرهم حول القانون، فكانت إجاباتهم موحدة ومختصرة في كلمتين مفادهما "غرامات ومحظورات". وبالفعل القانون لا يخلو من بعض التحديات؛ فالعقوبات أُفرِدَ لها 20% من مواد القانون ممثلة في 12 مادة من اجمالي 60 مادة، كذلك الارتفاع الكبير في الغرامات التي تصل إلى 200 ألف ريال عُماني كحد اقصى، وكذلك عقوبة السجن التي تمتد في بعض النصوص إلى 3 سنوات، وكل ذلك يُشكِّل قلقًا وهاجسًا للأسرة الإعلامية، نتيجة ما يمكن أن تتعرض له المؤسسات والإعلاميين من عقوبات رادعة.
والسؤال المطروح الآن: ماذا نتج عن عمل المشرعين في مجلس عُمان خلال المداولات الماضية؟ فقد استبشرنا خيرًا بالأخبار التي وردتنا من مجلس الشورى بعد مناقشة مشروع القانون، والمتمثلة في إلغاء النصوص المتعلقة بالسجن، ولكن سرعان ما تم عرقلة مشروع القنون في بوابة أخرى حسب التسريبات، ثم نسمع عن توافق بين المختصين في مجلس عُمان حول النصوص المختلف عليها. لكن ما حصل من تباين في الآراء حول التعديلات المقترحة على مشروع قانون الحماية الاجتماعية يبدو أنه حدث مع قانون الإعلام، الذي كُنَّا نطمح أن يخلو من العقوبات غير المبررة التي تؤثر بصورة غير إيجابية على مكانة سلطنة عُمان في المؤشرات والمحافل الدولية.
وفي الختام.. كنا نأمل أن تكون مسألة إيقاف المؤسسات الإعلامية- سواء مؤقتًا أو دائمًا- متروكة برُمتها للقضاء والمحاكم وليس للحكومة.
** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري