د. بدر البلوشي
سياسة الاغتيالات عبر التاريخ، وفي الحاضر كذلك، لم تكن يومًا سوى وجه قاتم من وجوه الصراع السياسي، والقوة العمياء التي لا تعرف إلا نزع الأرواح لتحقيق أهداف مسمومة مستترة خلف ضباب من الشعارات والادعاءات، وقد تكررت هذه السياسة على مر الأزمان، حاملة في طياتها رسائل مُوجهة إلى الداخل والخارج، مُغلفة بالحقد، ومدفوعة بآمال طاغية على رقاب الشعوب.
إذ إنَّ استهداف القيادات والشخصيات المؤثرة، سواء في الساحة السياسية، العسكرية، أو الثقافية، ليس مجرد تحييد لأصوات معارضة أو كبح لجماح قوى صاعدة، إنه أيضًا سعي خبيث لترسيخ مفاهيم الضعف والترهيب بين صفوف الأعداء والمقاومين، ليقف كل فرد أمام نفسه يسأل: "من التالي؟". وهنا يظهر الوجه الحقيقي للاغتيال؛ فهو ليس مجرد إنهاء لحياة شخص، بل هو رسالة لآلاف بل ملايين الأحياء، بأنَّ المصير ذاته قد يكون بانتظارهم إن اختاروا الوقوف في وجه التيار الجارف والظلم.
إنَّ الغاية الأساسية من اتباع هذه السياسة في الفترة الأخيرة ترتكز على بث الذعر، وزرع الخوف العميق الذي ينخر عظام المجتمع، فتتحول المقاومة من جموع مؤمنة بالحق إلى أفراد متشتتين، قلوبهم ممتلئة بالريبة والشك. كما أن الاغتيال يحمل في طياته مسعى لإرباك الصفوف، وكسر العزيمة الجماعية التي تنهض من بين ركام الظلم، فتتناثر الخطط وتتلاشى الرؤية المشتركة، بينما تعيش القوى الحاكمة على أنقاض الأمل الذي تمزق.
وما يجعل سياسة الاغتيالات أكثر فتكًا هو التوقيت المدروس بعناية، فهي لا تأتي اعتباطًا ولا تعقب خطأ فرديًا، بل تُنفذ في لحظات حرجة من عمر الصراع، عندما يكون المجتمع أو الحركة أو القيادة على مشارف إنجاز كبير قد يُغير المعادلة. ففي مثل هذه اللحظات، يظهر الاغتيال كقوة انتقامية تسعى إلى إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، وتثبيت الأمر الواقع الذي يخدم مصالح القوى المهيمنة.
ولا ننسى أن هذه السياسة ترتكز كذلك على انتقاء الأهداف بعناية فائقة، فالشخصيات المستهدفة غالبًا ما تكون رموزًا للكرامة، الحرية، أو الاستقلال. إنها شخصيات تشكل تهديدًا لا لمجرد كونها تقف ضد النظام أو الاحتلال، ولكن لأنها تمتلك قدرةً على جمع الناس حولها، وتوحيدهم تحت راية قضية واحدة. هؤلاء هم الذين يسعون لتحرير الفكر من الأغلال، والذين يغرسون في نفوس الناس حب الوطن والكرامة. ولذلك، يكون اغتيالهم اغتيالًا للمعنويات قبل الأجساد، وكسرًا لإرادة التحدي.
وعلى الرغم من أن هذه السياسة غالبًا ما تحقق نجاحًا لحظيًا، إلا أن التاريخ علّمنا أن دماء الشهداء لا تُسفك هباءً، وأنها تصبح نبراسًا للأجيال القادمة. فالذين ظنوا أن بإمكانهم إسكات الحق باغتيال رواده، وجدوا في نهاية المطاف أن الحق لا يموت، وأنه كالنار، كلما ظنوا أنها خمدت، إذا بها تشتعل من جديد، وتزداد ضراوةً واتقادًا.
وفي الختام.. إنَّ اتباع سياسة الاغتيالات لا يعبر عن قوة حقيقية ولا عن شجاعة في المواجهة؛ بل إنه في جوهره اعتراف ضمني بالعجز عن مواجهة الخصوم بوسائل شريفة.
إنها السياسة التي تشهد على الفقر الأخلاقي والانحدار الإنساني، في عالم فَقدتْ فيه المبادئ بريقها، وكما قيل في حكمة عربية قديمة: "من يغتاله الغدر، تنتقم له السماء".