د. عبدالله باحجاج
حاول الصهاينة جاهدين أن يمحو من ذاكرتنا يوم السابع من أكتوبر 2023، وهو يوم طوفان الأقصى المجيد، وذلك على ألا يأتي هذا اليوم إلّا وقد حققوا انتصارات من وزنه، تمحو انتصاراته ولا يخلد يومه، لكنهم فشلوا؛ فالذكرى المُباركة تطل علينا بفشل صهيوني جديد.
صحيحٌ أنهم لجأوا إلى العنف المفرط والخيانات واستخدام أحدث تقنيات الاختراق، وتمكنوا من خلالها من اغتيال قادة حزب الله وتدمير أجزاء من الضاحية الجنوبية، لكنهم تفاجأوا بعدها بوابل من الصواريخ البالستية من إيران حطمت معنوياتهم مُجددًا، ولم يتمكن الصهاينة من مجرد المساس بالمعنويات التاريخية ليوم السابع من أكتوبر 2023. ومن المؤكد أن الصهاينة الآن في هذه الذكرى هم أتعس البشر، وبنفسيات محطمة طاردة للعيش في الأرض المحتلة، بدليل ما ذكره استطلاع للرأي نشر في يوم الذكرى وأظهر أنَّ 61% من الإسرائيليين لا يشعرون بالأمان في الكيان الصهيوني.
مثل هذه الانتصارات التاريخية والحفاظ على قدسيتها ومركزيتها للأسف لا يتماهى معها الوعي العربي/ الإسلامي، وقد ظهر أن هذا الوعي هو الطرف الأضعف في معادلة المقاومة الشاملة المعاصرة، ولم يرتقِ إلى مستوى التحديات، وذلك عندما غرق في جدلية السنة والشيعة في وقت محنة الرد الصهيوني على انتصارات المُقاومة، مما يفقده هنا خاصية الوعي نفسه؛ لأنه وقع بسهولة تحت منهجية حملة تضليل إعلامية ضخمة استخدم فيها حتى الذكاء الاصطناعي، أشعلت حرائق هائلة في هذا الوعي لا تزال قائمة حتى الآن استغلالًا للجدلية سالفة الذكر.
ونرى جازمين أنَّ هذا الاستغلال كان من بين الاستهدافات الأساسية للحرب على حزب الله، وقد نجحوا فيه، واللافت هنا أن الخلافات طالت الآن الوجدانيات. وعندما تصل خلافات الجدلية السنية الشيعية إلى هذا العمق يكون الكيان الصهيوني قد حقق ثنائية نجاحه؛ وهما: اغتيال قيادات حماس، وإشعال وعينا بمعركة أفكار تشطر الشعب الواحد، وتجعل التشطير عابرًا للحدود على مستوى الشعوب لكي تنشغل بأحداث هامشية تؤثر على قضاياها الاستراتيجية. وفعلًا، فقد تمَّ تصعيد جدلية السنة والشيعة، والدخول على خطِّها في صناعة عدو بديل عن الكيان الصهيوني، أو على الأقل جعل مفهوم "العدو الأول" مُلتبسًا. وكل متتبع للمنصات الإلكترونية منذ اغتيال قادة حزب الله وحتى الآن سيرى حجم العداء "الإلكتروني" ضد إيران، عوضًا عن أن تتجه البوصلة للعدو الاستراتيجي/ الكيان المحتل، وحتى لمّا ردت طهران بعمليات قصف غير مسبوقة هزَّت الكيان المحتل، فلم يزد الحرائق إلا اشتعالًا في الجدلية.
ويُمكن تقسيم الوعي إلى 3 اتجاهات؛ الأول: يرى أن إيران تخلت عن حزب الله بـ"برجماتية ميكافيلية"، ولما دَكَّت طهران مواقع للصهاينة في الأرض المحتلة اعتبرها هذا الرأي مسرحية!! وأن تأثيرها لم يتعدَ سوى إضاءة سماء الأرض المُحتلة ببالونات في شكل صواريخ باليستية، وأن ذلك تم التنسيق بشأنه بين طهران وواشنطن مباشرة، ومع الصهاينة بصورة غير مباشرة. أما الاتجاه الثاني، فقد جنَّ جنونه رافضًا بشدة هذا السيناريو. في حين أنَّ الاتجاه الثالث، لزم الصمت، واعتبرها فتنة العصر. واللافت أنَّ كل رأي حاول تقديم استدلالات لتدعيم موقفه بمنشورات ومقاطع فيديوهات دون التحري عن صحتها من عدمها.
والمتعمق في الخلفيات سيرى بسهولة أنَّ هذا الوعي واقعٌ تحت منهجية إشعال الحرائق في الجدلية السُنية الشيعية، سلاحه في ذلك وسائل الاتصال المختلفة ينتج من أجلها مواد مزيفة جديدة أو التلاعب بمواد قديمة باستخدام الذكاء الاصطناعي، ويتم نشرها، ويتبناها الوعي العربي ويعتبرها من استدلالات حُجَجه، لكنها لم تكن سوى مواد تشعل الحرائق في الوعي، وهنا نسجل نجاحًا للذكاء الاصطناعي على الذكاء البشري الذي سمح بإغراقه في الجدلية السنية الشيعية في وقت كبرى الأزمات العربية والإسلامية المُجمَع عليها، وكان ينبغي ألا ينطوي عليه أن ما يُنشر في الفضاءات الآن فما هي إلّا جزء من الحرب الإعلامية على مواقع التواصل الاجتماعي والفضاء الرقمي عمومًا.
هذا يعني أنَّ الاختراق قد وصل إلى وجدانيات هذه الجدلية التي تُعمي البصر والبصيرة، وتعني أن هذه الجدلية قد أصبحت مشروعًا صهيونيًا لترقيتها؛ باعتبار الشيعة العدو الأول أو المُلتبَس مع الكيان الصهيوني، وبالذات داخل المنطقة الخليجية التي يُراد لها أن تدخل في أتون صراعات مذهبية خالصة لا نهاية لها؛ أي دون صبغة سياسية، وذلك لدواعي التفرُّغ لتأسيس ما يُسمى بـ"الشرق الأوسط الجديد"، ولا يُمكن ضمانة إقصاء بروز التيارات السياسية الدينية في هذه الحقبة؛ بل إنَّ هذه الحقبة حاملةٌ لكل مُعطيات ظهورها فوق السطح، وهناك شواهد كثيرة برز بعضها بشكل لافت فوق السطح، وأخرى في إطار التشكُّل والتحوُّل والبروز.
وتراهن الصهيونية في استهدافاتها الجديدة على الأفكار الصلبة في الجدلية السنية الشيعية، وهي التي تشتعل فيها الحرائق الآن، وتتمدد منها للآخرين، ولا يمكننا في هذا المقال إقناعها على الأقل بالتزام الصمت، لكننا سنحاول أن نجعل الوعي الجدلي يُسلِّم بوجود معركة فكرية يُنفق عليها الأموال الطائلة ويُجنَّد لها مثقفون وإعلاميون وسياسيون ومراكز دراسات تعمل ليلَ نهار على اختراق مناطق الوعي الآن لتحقيق النتائج التالية:
- إغراق المنطقة بجدلية السنة والشيعة.
- اقتياد الذهنيات العربية إلى الانهزامية.
- هدم المنطق الأخلاقي والقِيَمِي.
- صناعة عداء ضد المقاومة في غزة وبيروت وصنعاء وبغداد.
- ترقية الجار الإيراني المُختَلَف معه مذهبيًا وعقديًا وسياسيًا إلى مرتبة العدو الأول، حتى تنشغل به الحقبة الزمنية الجديدة، عوضًا عن عدوها الأول، وهو الكيان الصهيوني.
وتعد وسائل الاتصال/ الإعلام سلاحَ الصهاينة الأساسي ضمن ترسانته العسكرية التقليدية والاستثنائية، وهنا كبرى المخاطر التي ينبغي أن تلتفت إليها الدول وشعوبها، وبالذات الآمنة داخل أسرابها، لأننا كما قلنا- في مقالنا السابق "اغتيال نصر الله.. إجراء يحقق العدالة؟!"- إن الحروب الجديدة لن تُطلق فيها رصاصة واحدة، وإنما النصر سيكون من خلال الشائعات والأكاذيب واستغلال الثغرات داخل كل دولة أو منطقة، وما أكثر هذه الثغرات الداخلية والجماعية. والصهاينة كان اهتمامهم بتضليل الرأي العام وبث الشكوك وتبرير جرائمهم مُبكرًا منذ انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول عام 1897، عندما تأسست لجنة سميت "دائرة الدعاية" وجعلها تابعة لرئيس المنظمة الصهيونية بعد الحرب العالمية الأولى، واعتبارها أحد أسلحة الصراع العربي الصهيوني، ولها موازنة سنوية، تُدفع لشراء ذمم ولصناعة مضامين، وترسيخ وتسويق سرديات مُنافية للحقيقة.
أيها الوعي العربي ينبغي العلم يقينًا أنك في حقبة تضليل وتزييف واسعة، يُستخدم فيها الذكاء الاصطناعي، وتخيَّل قدرات هذا الذكاء الذي لم يقتصر على توليد المحتوى فحسب؛ بل يمتد إلى ترويجه على مواقع التواصل الاجتماعي، أي إنه قادر على إنتاج القصص المكتوبة مع صور ومقاطع مزيفة، لكنه أكثر احترافية لتعزيز الثقة في القصص! وتنشر على نطاق واسع، وتنطوي على ذكائنا هذه الخلفيات عندما يتم إعادة نشرها؛ إذ تسهم هذه القصص المزيفة ليس فقط في الإضرار بديمومة الأفكار الصلبة وإنما في تشكيل ذهنيات الجيل الجديد، وهنا الكارثة.