مدرين المكتومية
برهنت أحداث التاريخ ومصائر الأمم، أنَّ الذاكرة الجمعية للشعوب والحضارات تمثل المرتكز الأول والأساسي للأجيال التالية في مسيرة البناء والتطوير، فكما يُقال "من ليس له ماضٍ لا حاضر له ولا مستقبل"؛ وهي عبارة ألمعية تعكس يقينًا بديهيًا لدى العقلاء، وتؤكد أنَّ أي مجتمع لا يمكن له أن ينسلخ من ماضيه وأن يتخلى عن إرثه الحضاري؛ بل يتكئ عليهما من أجل أن يواصل مسيرته الحضارية في هذا العالم.
والإرث الحضاري والرصيد التاريخي لأي مجتمع هو بمثابة نقطة الانطلاق في رحلة بناء الأوطان وصون مقدراتها وبناء مستقبلها؛ بل إنه مصدر إلهام يضيء الآفاق أمام الأجيال، واحدًا تلو الآخر، في عملية متواصلة لا تتوقف مهما مرت السنون. وذا الإرث التاريخي يوجه بوصلة أداء الشعوب، ضابطًا لمساراتهم ومعززًا فيهم روح الولاء والانتماء بمسؤولية.
وخلال الأسبوع الجاري، انطلقت في مسقط أعمال المؤتمر الدولي للتأريخ الشفوي "المفهوم والتجربة عربيًا"، والذي عُقد على مدى يومين، واستضافته ونظمته بجدارة منقطعة النظير هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية، بالتعاون مع مؤسسة "وثيقة وطن" بالجمهورية العربية السورية الشقيقة؛ بمشاركة مراكز التأريخ الشفوي في مختلف دول العالم، وهدف المؤتمر إلى مناقشة أحداث الماضي ومجريات الحاضر وتطلعات المُستقبل.
أثناء حضوري لأعمال هذا المؤتمر، لفت انتباهي التنوع الثري للمشاركين من خلفيات ثقافية متعددة، وعدد ومضامين أوراق العمل والجلسات النقاشية التي أثرت أعمال المؤتمر الدولي، فتحوّل هذا المحفل إلى منارة عالمية تضيء مسارات المُستقبل، المنطلقة من الماضي عابرةً للحاضر، في ترسيخ لحقيقة تاريخية تُبرهن على الدور الرائد الذي مارسته سلطنة عُمان خلال الحقب التاريخية المختلفة، عززت فيه من أواصر التعاون مع مختلف شعوب العالم، شرقًا وغربًا، ونجحت في أن تكون حلقة وصل محورية بين مختلف الأقطار والشعوب.
ولعل أبرز ما أستطيع أن أسلط عليه الضوء، ذلك التوصيف الدقيق الذي استخدمه سعادة الدكتور حمد الضوياني رئيس هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية، عندما وصف التأريخ الشفوي بأنه "مصدر الذاكرة الذي يجب أن يحظى بمنزلة خاصة، لما يلعبه من دور محوري في حفظ ذاكرة الوطن والدفاع عن حقوقه".
هذا الربط العبقري بين "التأريخ الشفوي" وذاكرة الوطن، يؤكد العلاقة التشابكية بين الماضي والحاضر والمستقبل، ويُشير بوضوح إلى أهمية العناية الشديدة بكل ما تحتفظ به ذاكرتنا الجمعية والفردية من أحداث ومجريات تاريخية، ربما يرى البعض أنها أحداث عابرة، لكنها في حقيقتها، تمثل حلقة من حلقات سلسال طويل يمتد في جذور هذه الأرض الطيبة، ولن يتوقف ما دامت الذاكرة الحيَّة للشعوب لا تغفُل ولا تنام.
مسألة تأريخ الأحداث وتدوينها وحفظها وتدبر تفاصيلها ودراستها وتحليلها، باتت اليوم مسؤولية جماعية مشتركة، خاصة في ظل ما تتعرض له الحقائق التاريخية من تشويه مُتعمّد مع سبق الإصرار والترصد، بهدف تزوير التاريخ، ومحو بعض الأحداث من السجلات، أو حتى ادعاء البعض امتلاكه لتاريخ مُعين أو نسبة أحداث تاريخية لهم، دون سند علمي وتاريخي قوي، وبلا برهان معرفي يُثبت صحة الادعاء؛ بل على النقيض تمامًا، فإنَّ الكثير- إن لم يكن الجميع- ممن يدّعون نسبة أحداث تاريخية لهم لا يقدمون أي دلائل علمية وتاريخية صادقة، وإنما يعتمدون على المزاعم والأكاذيب والوثائق غير التاريخية.
والأجيال الحالية وتلك التي ستأتي، بحاجة ماسة للتعرف على تاريخها، ولذلك تولي هيئة الوثائق والمحفوظات عناية خاصة بأهمية الاعتناء بالتأريخ الشفوي، وكم نشعر بسعادة غامرة عندما نرى الخبراء والمتخصصين في الهيئة يجوبون أنحاء ولايات عُماننا الحبيبة، ويجلسون مع رجال ونساء احتفظوا بذاكرة الوطن في قلوبهم قبل عقولهم، فيبدأون في سرد مختلف الأحداث، ويروون القصص التاريخية التي توارثوها عن آبائهم وأجدادهم، وهو ما يُمثل رصيدًا معرفيًا وتاريخيًا غنيًا.
وأخيرًا.. إنَّ العمل على حفظ التاريخ من أسمى وأنبل الأعمال، ولا شك أنَّ الأدوار الوطنية التي تؤديها هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية، تؤتي ثمارها في صورة رؤية تاريخية ناصعة، تروي سيرة وطن شامخ كشموخ جباله الشاهقة، وتنساب فيه الأحداث كما تجري المياه في الأفلاج، فتروي ظمأ الباحثين عن الحقائق التاريخية.. فهنيئًا لكل من أسهم بهكذا دور، وتحية تقدير وامتنان إلى جميع العاملين في هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية وعلى رأسهم سعادة الدكتور رئيس الهيئة، الذي يقود مهمة وطنية سيُسطِّر تفاصيلها التاريخ وتوثقها الأحداث.