مآلات نظام التقاعد الجديد للمُعلمين

 

غنية الحكمانية

صدر في يوليو 2023 قانون الحماية الاجتماعية، الذي يضم في أحكامه جميع موظفي الخدمة المدنيّة، مع تعديل سنوات الخدمة لتصبح 30 سنة خدمة فعلية استيفاءً لشروط التقاعد الجديد.

لكن ألا يُستثنى من نظام التقاعد الجديد وزارة التربية والتعليم؟! تلك الوزارة التي بحاجة إلى ضخّ دماء جديدة وتجنيد كوادر واعدة متجددة، مواكِبة للتحولات الرقمية والتطورات العالميّة، ومواجِهة للتحديات المستقبلية والمتطلبات العصرية، ومشارِكة في صنع القرارات الخدَميّة والخطط التنمويّة. 

إنّ عملية التغيير والتدوير وسياسة الإبدال والإحلال ضرورة حتميّة في وزارة التربية وبالأخصّ الكادر التعليمي؛ إحياءً للهمم وارتقاء للقمم؛ فالمدرسة هي المُصدِّر الأول للعقول والمهارات والخبرات والأفكار إلى جميع الميادين والمؤسسات والهيئات؛ فهي القوة المُصّنعة لتلك المخرجات التي تشدّ عضد السّلطنة. والحاجة إلى تجديد كوادرها أمر ضروري. والفجوة كبيرةٌ بين الكوادر القديمة والمعاصرة والتقاطعات بينهم قليلةٌ. وما يحدث هو صدام واستنقاص وتفاوت في مواطن القوة والكفاءة والخبرة.

فأيّ مزيد من العطاءٍ سيقدّمه المعلمون الأُوَل بعد عمرٍ طويل أرسوا فيه الدعائم وأخلصوا فيه العزائم، لم يضنّوا فيه بجهودهم وخبراتهم التي أنهلت منها الأجيال وتوارثتها وترعرعت تحت أيديهم، ولديهم المزيد ولكن طاقتهم شارفت على النفاد أو قد نفدَت. وطاقة الخريجين الجدد في شعلة متوقدة، فهم رهن إشارة وأثبت جدارة، طُولة بال في التعامل مع الأجيال والمتغيرات وحب التنافس في إبراز الأفضل والأمثل، وبحث عن البديل وترحيب للجديد، وتنشيط مثمر للفعاليات والمبادرات داخل المدرسة وخارجها وبداخل السّلطنة وخارجها، فهم طاقة بشرية وفكرية عظيمة ستخبو إلى حين انتظار التوظيف.

إننا لا نريد أن نفقدَ طاقة الخريجين الجُدد؛ فلنغتنم فرصتهم الأولى ونمنحنهم الثقة ونتلقفهم قبل أن يستنزفها التذمر في انتظار التوظيف سنوات وسنوات، وقبل أن تنطفئ شعلتهم المفعمة بالنشاط والحيوية ويسود الصف الرتابة والمهابة والتلقينية والتقليدية.

عندما نريد تطبيق قانون التقاعد الجديد تماشيًا مع بعض الدول التي اتخذت هذا القرار نأخذ في الحسبان محفّزات استكمال الخدمة، الأنظمة والقوانين الملهمة للرغبة والاستمرارية في العمل. بيئة العمل وطبيعة المناخ والطاقة الاستيعابية للطلبة في الصّف، والجاهزية التامّة للمبنى المدرسي، ونصاب الحصص اليومي وفترة الدّوام الواحدة، وساعات العمل اليومي، وكمّ المنهاج والمحتوى، ومكانة المعلم وقيمته، فهناك مفارقات كبيرة وكثيرة يجب أن يُحاط بها والنظر إليها قبل أن يتم تنفيذ حذافير سياسات الأنظمة في تلك الدّول.

ولا ننظر إلى خدمة الدولة 30 عامًا وإنما ننظر إلى الآثار الاقتصادية والاجتماعية والنفسية والجسدية من جرّاء تطبيق هذا النظام، فإن الانتاجية حتمًا ستقلّ والأداء الوظيفي سينخفض وهذا شيء طبيعي لا نكران فيه، وتكدّس الباحثون عن العمل لعدم وجود شاغر يسدّوا فراغه. إلى جانب تراخي القوة الجسدية وضعفها عن الخوض في معترك التعليم، وتخلخل بعض الصّلات الأسرية نتيجة عدم التفرغ للمسؤولية والرعاية؛ فأي مستقبلٍ ينتظر المُعلم بعد أن اشتعل الرأس شيبًا.

وما نوعية الإنتاج الذي نستجديه منهم وقد كانوا ينتظرون فرصة التقاعد المبكر وقد رسموا آمالًا وطموحات وفجأة يتحطم وينهار كل شيء؟ وأي تنمية مستدامة ستحقق أهدافها؟ وأي استثمار وجودة في التعليم نستشرفه؟ وأي مساهمة في تطوير الاقتصاد الوطني نعمل على تعزيزه؟ ففاقد الشّيء لا يعطيه مهما حاول أن يمنحَ المعلم لنفسه فرصة النهوض والتجديد، وحاولت الواجهة الإعلامية تلميع صورته وتبجيل مكانته.

إنّ كثيرين قد أبدوا شكواهم واستياءهم وامتعاضهم من النظام التقاعدي الجديد، فكيف إذن نناشد بالجودة في التعليم والارتقاء إلى مصافّ الدول وكادرها التدريسي مجبر على إنهاء الثلاثين عامًا بتمامها وكمالها، ومُرغم على اجترار روتينه السّنوي يوميًا كأنّما يُساق إلى المقصلة. المهم هو أن يملأ صفحة سبورته بمحتوى درس يومه متربعًا على كرسي مكتبه يطرح الأسئلة ويرتجي الإجابة، فاقدًا سرّ التشويق والجذب وروح الحماس والشّغف، ليس لديه أشكال متنوعة أو صيغ متعددة لطرائق واستراتيجيات ووسائل تدريس جاذبة.

النسخة نفسها في ذاكرته لم يجرِ تحديثها أو إعادة صياغتها منذ زمن. يسكب دلوه على طلابه دون النظر إلى الفروق الفردية وطرق التعزيز المناسبة، ودون تفعيل أدوات الاستنتاج والنقد والتحليل والتقويم، فمشارب المعلومات واحدة لجميع طلبة الصّف. ضميره يؤنبه ويستغيث النزاهة والشفافية والصّدق ولكن هذا أقصى ما قد يمحنه جهده وتمدّه طاقته. فكل ما بوسعه قد منحه منذ بداية إلى متنصف مشوار خدمته، أمّا الآن فهو فقط يعمل ليتقاضى مرتبًا يعتاش منه.

إنَّنا نرجو مراجعة نظام التقاعد الجديد في وزارة التربية والتعليم ومراعاة مصلحة الموظف والعمل، فأقصى أمنيته هو التقاعد المبكر، قد لا يرجو حوافزَ أو ترقيات أو مكافآت، والتي هي من حقوقه الوطنية؛ فالخروج من الخدمة بأقل من نصف الراتب قبل استيفاء شروط التقاعد الجديد تعسفٌ وإجحاف، فلا بُد من وضع دراسات مستقبلية قبل إرساء أي قانون يخصّ المعلمين؛ فهم اليد الطُولى في خدمة الوطن والرفعة من شأنه وإنتاج الوفرة من القيادات والعطاءات البنّاءة، فلتُسبر أغوار تطلعاته واحتياجاته ولتُعاد مكانته واستحقاقاته.

تعليق عبر الفيس بوك