ماجد المرهون
أرض كوش والنُوبة ومهد الحضارات الأفريقية القديمة وبلاد النيلين وبَوابة العالم العربي إلى إفريقيا، إنِّه السودان البلد المُسالِم والمُهادِن مع كُل تنوعاتهِ الطبيعية الهائلة وتعدُّداتهِ البشرية من حيث الأعراق واللغات والثقافات والإثنيات، حتى ازدادوا بالإسلام عزًا، كما أعز الله به كُل من أسلم، وما يُثبت تصالح السودان مع ذاته داخليًا وعدم وجود مؤسسة دينية ذات فتوى مرجعية هو أنَّ المرجعيات لشيوخ الطُرق الصوفية؛ مما يجعل منها مسألةً بالغة التعقيد وفاتِحةٍ لثغراتٍ خلافية واسعة كما يُعتقد وحسب الصورة النمطية للخلافات الدينية.
لكن هذا لا يحدث في السودان إطلاقًا؛ وهي سماحة تدعو للإعجاب، ومع الأخذ في عين الاعتبار العدد الضخم من القبائل المُسجَلة رسميًا والتي قد تصل إلى 700 قبيلة تقريبًا فإنَّ هذا يُعد من محفزات نشوء بؤر خِصبةٍ للخصومةِ والشِقاق باعتماد الحس الجمعي الذي نعتقده اليوم في ظل عدم وجود دولةٍ تحفظ الحقوق المعنوية الثقافية والحقوق المادية المُباشرة، لنجد مجددًا أنَّ كل ذلك لا يُعتبر مولدًا لإذكاء روح التشاحن وخلق صراعات يُمكن وصفها بالخطيرة.
إنه أمرٌ استثنائي يدُل على إمكانية تعاطي السوداني مع كل المكونات بسهولةٍ وذكاء والتعايش جنبًا إلى جنب مع الاختلافات والفروقات من حولهِ ببساطةٍ دون عناء، في صِفةِ حفظ كرامته من خلال احترام الآخرين وحقوقهم وهو ما شكَّل السِمَة السائدة للشخصية السودانية وما تبين لنا في التَّعامل مع السودانيين، إذًا ما هو مدخل تفكيك هذا الشعب من الباطن للخلوص إلى مخرج إحسانِ التقسيم في الظاهر؟!
صحيحٌ أنَّ الاستقرار السياسي بدلالاتهِ الحديثة لم يَستتِّب بصورة دائمة في السودان لعدة عقود، لكن لم تنشأ حروب مُهلكةٍ للنسل والحرث مع وجود ثِقلٍ تشريعي للمكون القبلي والديني، إلّا حينما ظهرت الأحزاب السياسية والتي كانت ولا زالت غير قادرةٍ على تأسيس فاعلية صلبةٍ لدولة ديمقراطية من خلال ما تفتعِله بين الحين والآخر من انقلاباتٍ عسكريةٍ تنافُسيَّة في الاستيلاء على رأس هرم السُلطة لمجرد خلافاتٍ ذرائعيةٍ فيما بينها أو كيدية، بيد أنَّ المُجتمع في عمومهِ يفهم جيدًا عمق هذه المعادلة المُتكررة؛ إذ لم تكن لتلك الأحداث في السبعةِ عقودٍ الماضية انعكاسًا صريحًا على شخصية وثقافة الإنسان السوداني من حيث الفكر والسلوك، وهذا دليل راسخ على صلابة الوعي لدى السودانيين كأُمَّة، وليس كأحزابٍ قليلة ساعية للسُلطة والمكاسب الشخصية، على عكس ما نجِده في الجنوب المنفصل والذي تعصفُ به الخلافات الآيدلوجية والإثنية والعرقية؛ مما أفشل قيامه المستقل منذ 13 عامًا كدولةٍ بالمفهوم الحقيقي مع توفر كُل المقومات الاقتصادية.
قد لا يختلفُ اثنان على الصراعات الدائرة تحت الرماد في العالم العربي مُنذ "سايكس- بيكو" واستمرار الدبلوماسية الغربية في تأجيج جذوتها، مع أن السودان لم يشمله اتفاقية التقسيم بشكلٍ مباشر، إلّا أنه أدرج ضمن خطة برنارد لويس عام 1983 في التقسيمات العرقية والطائفية والمذهبية. وقد شهدنا على تحقُّق شيء منها إبّان انفصال الجنوب، وما قد يتحقق لاحقًا مع استبداد الأحزاب المُتنازعة في التصلُّب السُلطوي والتعنُّت في الرأي ليكون مشروع التقسيم القادم بِمعاول الأذرعة الحزبية نوعًا من الحلول التي تُطرح في إطار التفاوض لحفظ السلام وإنفاذ العدالةِ وحماية المدنيين وحقوقهم، وبالطبع لن تُرفض المُبادرة مع تأزم الظروف الإنسانية وسريعًا سيقبل كُل حزبٍ بمساحة معلومةٍ لحكمها وأجزاءٍ مرسومةٍ لبسط نفوذهِ عليها بعد أن قاسموا بقصدٍ أو دون قصد في تأصيل سياسة التجزيء وهم فرحون بما احتازوا.
لقد أسهم السودانيون إسهامًا عظيمًا لا يمكن نُكرانه في وضع اللبِنات الأولى لقيام الدول العربية الحديثة بعد اكتشاف النفط وفي شتَّى مناحي الحياة؛ كالتعليم والزراعة والهندسة وحتى في القانون والمحاسبة والتخطيط المدني، بسبب سبقهم العلمي وسُمعتهم الحميدة، فإنَّ السؤال الذي يطرح نفسه بديهيًا بعد ما أوردته في المقال المقتضب أعلاه هو: أين نحنُ الآن كأمةٍ عربيةٍ وإسلامية مما يحدث في السودان؟ لا سيما أن الوضع السياسي والدبلوماسي يختلف عمّا يحدث في فلسطين "وهما أمران أحلاهُما مُر"، وما المواقف التي اتخذناها إزاء إخوتنا السودانيين؟ أم أنَّ إخلاء الطرف من المسؤولية يحين عندما تلمع مقولة "شأن داخلي" من باب عذر النفس بسد الذريعة؟!
وبصرف النظر عن صِراعات الأحزاب التي يُحاول بعضها العلو على الآخر في النفوذ والاستحواذ على حساب الإنسان والممتلكات والمُكتسبات، فإنَّ ما يحدث من سفك دماء وتقتيلٍ وتنكيلٍ بالأبرياء لهو مدعاةٌ للأسف والحزن الشديد تجاه أحد أكثر الشعوب العربية ودًا ولُطفًا وطيبًا وعرفانًا وتسامحًا، فهل يوجد من يوقف الشرذمةِ المُستبيحة لكل مُحرَّمٍ وممنوع عند حدها ويقول لهم كفى، أم بالنظر نكتفي والسكوت، حتى نبارك يومًا ما غالبية التصويت على التشظي والتفتيت؟!