النفاق كما عرفته!

 

 

د. محمد بن عوض المشيخي

 

النفاق يُمثل بضاعة رائجة لا تنتهي صلاحيتها في مختلف الأزمان، وقد ارتبطت بالإنسان عبر مراحل حياته، وعلى الرغم من النفي المُتكرر من البعض لعدم ارتباطهم بالنفاق، إلّا أن الغايات تُبرر الوسيلة المتمثلة في النفاق الذي يودي بصاحبه إلى الدرك الأسفل من النار.

هناك شعرة رفيعة تفصل بين النفاق والمجاملة؛ فالإنسان مُجبر في كثير من الأحيان أن يمارس المجاملة على نطاق واسع، وذلك لإرضاء الآخرين الذين يعيش معهم، وذلك بهدف كسب ودهم وكذلك الحصول على بعض المكاسب المادية والمعنوية؛ بل ربما لتجنب الصدام بالغير والاختلاف مع من نشاركهم في هذه الحياة. وقد نحتاج إليهم لمساعدتنا للوصول إلى غايتنا في الحياة؛ كالوظيفة أو المال أو حتى نتجنب الأذى من البعض. وهناك من يعتقد أن لغة المجاملة تفتح الأبواب المغلقة والخزائن السرية؛ بل وحتى القلوب المُتحجِّرَة، فعند سماع المفردات الجميلة المُعبِّرة من المدح والثناء والوصف الجميل الذي يرفع الشخص المقصود أو الموسوم بالمدح إلى عنان السماء، وتجعله الكلمات المعبرة، فإنِّه يشعر بنشوة الانتصار والنجاح الذي ما بعده فشل؛ وفي واقع الأمر الثقافة العربية الدارجة تُسيطر على مفرداتها المجاملات التي تعود عليها الناس في مختلف أنشطتهم ومجالسهم اليومية.

أما خطاب الصراحة فهو الغائب الأبرز في المضامين التي نشاهدها ونعيشها في أوقات كثيرة في مختلف الساحات وميادين الحياة. ومن المؤسف حقًا أنك تخسر كل من حولك من الأصدقاء والمسؤولين؛ بل حتى أفراد أسرتك المقربين عندما تكون صريحًا بما فيه الكفاية، وتضع الأمور في نصابها؛ فالحقيقة صعبة ومُرَّة على كثير من النَّاس، ويجنح هؤلاء الجمع إلى صَمِّ الآذان عندما يحضر النقد البنّاء ويصل إلى أسماعهم، وتأخذ الصراحة مسارها الحقيقي وتكون هذه الصراحة لغة الحوار الوحيدة، وتتوارى عن المشهد كلمات المجاملة التي تستخدم لتطليف الأجواء وجبر الخواطر، وتزيين الباطل وتضليل الناس.

لا شك أن مراقبة الآخرين والانشغال بعيوبهم، ومحاولة إبرازها والتركيز عليها، يُعد من الأمور المذمومة وغير المستحبة اجتماعيًا، فأولى بالإنسان مِنّا أن يتفقد عيوبه ويتعرف عليها عن قرب بشكل واضح ويُحاول، بقدر الإمكان تصحيحها نحو الأفضل كل ما أمكن ذلك وسنحت الفرصة.

يجب هنا أن نُفرِّق بين الاحترام المُتبادل في ثقافتنا المُتمثل في بعض المجاملات الضرورية مثل تبادل الزيارات وتقديم الهدايا بين الأطراف والتي تهدف بالدرجة الأولى إلى استدامة العلاقات الإنسانية بين الأقارب والأصدقاء والجيران، والتعبير عن المشاعر الطيبة تجاه من نُحب، وبين النفاق المذموم الذي يُصنَّف ضمن شهادة الزور ومُساندة البعض من عِلية القوم والشهادة لهم بحُسن الخلق والعدل، على الرغم مما قد يبدر منهم من أفعال سيئة ربما تتجاوز الأعراف المُتفق عليها؛ بل وطالت حقوق الآخرين من الناس الغلابة. كما إن ما يجمع الناس ويُحبِّبهم للبعض هو الكلام اللطيف أو على قول البعض "الكلام المعسول"، والتركيز على المحاسن وغض الطرف عن السلبيات والعيوب، وإن كانت واضحة المعالم، على أمل أن يتعلم الأصدقاء الذين نتعامل معهم من تلك السلبيات والعمل على إزالتها من الوجود.

وإذا أصبح بالفعل كل واحد منا مُنشغلًا بعيوبه عن الآخرين، سنجد أن البشر في عالمنا قد تحول واقعهم ومستقبلهم إلى أفضل حال، وارتقوا إلى المجد أو ما يعرف مجازًا برحاب "المدينة الفاضلة" التي تتحقق فيها الأحلام الجميلة ونعيش جنبًا إلى جنب في وئام وسلام أبدي.

كم هي صعبة الحياة عند ما ندخل معتركها دون ضوابط أو دراية بما نُريد نحققه، وتكون التلقائية والفطرة التي تربينا عليها في طفولتنا هما اللتين نحملهما على وجوهنا البرئية ونواينا الطيبة في غابة تتنافس فيها الناس لتحقيق المكاسب والغنائم، بدون مراعاة للحرمات والحدود في زمن كثرت فيه الفتن والنفاق والبحث عن المصالح على حساب الأخلاق الكريمة التي كانت زاد الأولين من أجددنا وآبائنا ومعيارهم في هذه الدنيا الفانية. الحقيقة المؤلمة التي نراها اليوم بكل وضوح أمام أعيننا هي ميل عامة الناس للمصالح على حساب المبادئ، والتوجه بلا حرج لأصحاب الأموال والمناصب وتزكيتهم بلا حرج، وإن كان ذلك على حساب القيم وتعاليم ديننا الحنيف وحسن الخلق.. فهل بالفعل وصلنا إلى المستوى الذي يمكن أن نوصف فيه قطاعات من المجتمع الذي نعيش فيه بأنهم ماديون وأنانيون، وقبل ذلك كله مُنافقون بما تحمله هذه الكلمات من معنى؟

في واقع الأمر أن البشر يتجذر فيهم حب اكتناز المال وتقلد المناصب ومصاحبة أصحاب النفوذ والسلطة، هذا بالنسبة للنُخب والمُثقَّفين الذين يكونون على مقربة من صُنَّاع القرار والحكام، وهذا ليس محصورًا في هذا الزمن؛ بل عبر التاريخ، ولعلنا نتذكر المنافقين والمتسلقين من الأعيان والشعراء والطامعين بالمناصب على مر العصور المختلفة، كيف كان هؤلاء القوم يكيلون المدح وينافقون من يغدق عليهم بالمال ويُقرِّبهم ويُحسن استقبالهم في القصور ودواوين الخلفاء والحكام.

في الختام.. الكل يتحدث عن المثالية المفقودة، فيستحضر هؤلاء الأخلاق الكريمة عند حاجتهم لذلك لتحقيق غاية أو هدف معين وسرعان ما تختفي تلك المبادئ عندما يتحقق لهم ما يريدونه، وبعد ذلك يظهر النَّاس على حقيقتهم وشخصيتهم المُعبِّرة عن واقعهم والتي ينفر منها من يُعاشرهم، بسبب النفاق الاجتماعي.. إنِّها طبيعة إنسانية سيئة تُعبِّر عن جوانب مُظلمة في حياتنا، لكنها راسخة في كثير من النفوس والأفئدة ولا تتغير إلّا بحدوث زلزال عظيم يقتلع الجذور الخبيثة التي سكنت العقول وتوغلت في اللاشعور من أدمغتنا، وإن كان هذا التسونامي غير وارد الحدوث في حياة الكثير من الناس!

** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري