د. محمد بن عوض المشيخي
أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري
من أعظم الإنجازات التي تفتخر بها الأمم، هو بناء الإنسان ورفع مستواه الفكري، والمحافظة على القيم والثقافة الوطنية التي تعبر عن أصالة المجتمع؛ وخاصة غرس تلك القيم التي تعبر عن مشاعر الولاء للوطن وتعزز الهوية في نفوس النشء والأجيال الصاعدة من الشباب الذي يتوقع منهم؛ إذا ما أحسن إعدادهم ورفع مستواهم العلمي؛ حمل راية الوطن والرفع من شأنه في المحافل الدولية بجهود أبنائه المخلصين الذين تم إعدادهم وتسليحهم بالعلم والمعرفة الرصينة التي تنطلق من بحر الفكر المستنير للمنجزات الوطنية والسمت العماني الأصيل الذي يعبر عن ثقافة هذا الوطن وتراثه الخالد وتاريخه التليد؛ وقبل ذلك كله "مجموعة القيم والآداب والسلوكيات المتجذرة في المجتمع العماني؛ وتعكس بكل وضوح الهوية الوطنية" التي تشكل الرموز الوطنية كالعلم العماني والقيادة السياسية لسلاطين عُمان الميامين واللباس الوطني؛ وبالفعل الهوية هي أثمن وأغلى ما يملكه الإنسان والأمم في هذا العالم الذي تعاني فيه الشعوب من ذوبان الهوية وتسطيحها بل ومسحها من الوجود، وذلك باستبدالها بالثقافة الإمبريالية الغربية التي تملك الإنتاج الفكري والسيطرة الاقتصادية، والقوة العسكرية المطلقة مما ترتب على ذلك احتواء الدول الضعيفة ودمجها في ثقافة العولمة.
وفي ظل هذه التحديات التي تواجه الثقافات الوطنية في دول الجنوب تظهر في الأفق الجهود الوطنية العمانية التي تنطلق من فكر القيادة الحكيمة المتمثلة في جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعها- الذي حذر مرارا وتكرارا من خلال اللقاءات التي تجمعه بالشيوخ والأعيان وكذلك الكلمات والخطابات عبر وسائل الإعلام في مختلف المناسبات الرسمية والشعبية من المخاطر التي تواجه المجتمع العماني من الداخل بسبب القيم الدخيلة والمضامين غير المرحب بها عبر مختلف وسائل الإعلام الرقمية.
ومن أهم المبادرات التي أثلجت صدورنا جميعا والتي أُسدل عنها الستار الأسبوع الماضي والتي تصدرت المنصات الإعلامية والقنوات الإخبارية ووسائل التواصل الاجتماعي عبر هذا الكوكب، خبر غير عادي، كونه يحمل لهذا الوطن بشائر سارة وإنجازا وطنيا جديدا؛ يتمثل في إطلاق صاحب السمو السيد ذي يزن بن هيثم آل سعيد وزير الثقافة والرياضة والشباب، إشارة البدء لتنفيذ برنامج الانضباط العسكري لطلاب مدارس التعليم العام في نسخته الثانية في محافظة ظفار بعد أن حقق العديد من الأهداف الوطنية العام الماضي.
وتكمن أهمية هذا العمل الوطني الطموح الذي تشرف عليه وزارة الثقافة والرياضة والشباب بالتعاون مع العديد من الجهات العسكرية والأمنية في تحقيق العديد من الغايات الوطنية التي تشكل وقاية وحصانة للشباب من العادات الدخيلة والسلوكيات الضارة؛ بما تحمله من تأثيرات مدمرة على المجتمع بشكل عام والشباب بشكل خاص. ولعل أهم تلك الأهداف تحقيق الانضباط السلوكي واحترام الأنظمة والقوانين، واكتشاف المواهب القيادية للشباب وصقلها ومتابعتها للوصول بها إلى أعلى درجات التميز لخلق قيادات وطنية شابة لخدمة عُمان في مختلف المجالات، كما أن إكساب هؤلاء الطلبة الذين هم في صفي (10 - 11) من التعليم العام ويقدر عددهم (850) طالبا المهارات القيادية والإدارية والتدريب العسكري على الأسلحة الخفيفة من خلال المدربين الماهرين من مختلف قطاعات قوات السلطان المسلحة؛ خاصة الجيش السلطاني العماني والسلاح الجو العماني لهو جهد مقدر وجدير بالشكر والعرفان.
وهكذا هو الواجب والمهام الوطنية لقوات السلطان المسلحة والأجهزة الأمنية العمانية، لم ينحصر يوما في حماية تراب الوطن الغالي والدفاع عن ثغور الوطن ونشر الأمن والأمان في ربوع السلطنة فقط، بل يمتد اليوم للمشاركة بالتنسيق مع الوزارات المعنية كوزارة الثقافة والرياضة والشباب ووزارة التربية والتعليم في بناء عقول الأجيال والمحافظة عليهم من التيارات الهدامة؛ وذلك امتدادا إلى شراكات سابقة مع مختلف الوزارات الحكومية في مجالي البناء والتنمية منذ فجر النهضة العمانية في فجر السبعين؛ معبرة عن الشعار الذي رفعه المغفور له السلطان قابوس -طيب الله ثراه- "يد تبنى ويد تحمل السلاح" من أجل وطن شامخ متصالح مع ارثه التاريخي ويستمد منه الحاضر المجيد، وذلك للولوج نحو المستقبل المشرق بما يحمله من فكر مستنير ونهضة متجددة شامخة تنقل السلطنة إلى مصاف الدول المتقدمة من خلال رؤية "عُمان 2040"، وهذه الاستراتيجية الطموحة هندسها وقادها جلالة السلطان هيثم بن طارق -أعزه الله- منذ أن كانت مشروعا أو فكرة، وقبل أن يتولى مقاليد الحكم في هذا البلد بسنوات.
وفي الختام، يبدو لي أن هذه التجربة تعبر عن حكمة عمانية أصيلة تنطلق من ثوابت القيم الوطنية وتجربة الأجداد الذين كان لهم السبق في بناء التراث المادي والمعنوي للغبيراء؛ فيقوم هذا البرنامج الرائع على استلام أجهزة الهواتف الذكية من الطلبة المشاركين في المعسكر من أول يوم عمل والذي يمتد لعدة أسابيع؛ كي يبتعدوا عن الأضرار والمضامين التي تحملها تلك الأجهزة الذكية من جوانب سلبية كتضييع ساعات طويلة يوميا ومشاهدة مقاطع تحمل لقطات دخيلة ومخالفة للدين الحنيف؛ والأهم من ذلك كله النوم المبكر، والقيام لصلاة الفجر، ثم الانخراط في ورش العمل التطبيقية في مجالات ريادة الأعمال والذكاء الاصطناعي وغرس القيم الدينة وتنمية الولاء للوطن والتدريب على الإسعافات الأولية والتعرف على أضرار المخدرات من خلال تجارب عملية يقدمها المختصون.
ومن هنا ندعو من هذا المنبر نشر هذا البرنامج التدريبي وتوسيع من مخرجاته على نطاق واسع لكي يستوعب عشرات الآلاف من طلبة التعليم العام وكذلك التعليم الجامعي بهدف تحقيق عدة أهداف لا تقدر بثمن، أول هذه الأهداف إيجاد قاعدة عريضة من الشباب المتدربين الذين يملكون مهارات وخبرات عسكرية عندما يحتاج لهم الوطن في الحالات الطارئة، ثانيا: التعرف عن قرب عن أخطار سموم المخدرات بمختلف أنواعها للوقاية من هذا المرض القاتل؛ ثالثا: نشر مظلة المختصين والمتدربين على الإسعافات الأولية لكي يساهموا مع الأجهزة المختلفة بإنقاذ الأرواح في الحوادث المرورية والحرائق المنزلية وكذلك عند حدوث الأنواء المناخية في أي منطقة في السلطنة، فنحتاج إلى نشر مهارات متعلقة بالإسعافات الأولية بين معظم سكان السلطنة.