قصة قصيرة من وحي عصر التنوير

المُستنيرة طيبة

 

هيثم نافل والي
"كلما ازداد أعوان الخطأ، ضعفت حجة الصحيح".

 

ولدت أنهر في دولة عربية؛ من أسرة مسلمة ومحافظة جداً. تربت على التقاليد والأعراف المنقولة لها أباً عن جد بالتوارث. لبست الحجاب قبل فترة بلوغها بقليل دون فهمها. هي اليوم في الثامنة عشر من عمرها.

جميلة هي كالزهرة تتهيأ لامتحانات سنتها المنتهية في الإعدادية القسم العلمي. لها صديقة وزميلة اسمها طيبة في ذات الصف ودارهم يلاصقهم كتف بكتف. أنهر تحبها كثيراً كونها متفتحة ولها بُعد نظر في المسائل الاجتماعية وأحياناً حجتها تبهر بها أنهر وتكاد الأخيرة تنساق معها ولأفكارها، وعندما تتذكر أهلها ترتد رعباً مما تفكر فيه أو ما تأثرت به من قبل صديقها طيبة.
في الأفق كانت كرة حمراء متوهجة، تهرب ببطء؛ تأملتها أنهر بانبهار أسر لبها وهي ترى منظر غروب الشمس بوقفتها عند سطح بيتهم في تلك العصرية وهي تطالع امتحاناتها لنيل شهادة البكلوريا وإذا بصوت بكاء ونحيب يكسر صمت تأملها ويرجعها لواقع تعودت عليه في الآونة الأخيرة صادر من بيت جيرانهم وبالتحديد صوت صديقتها طيبة وهي ترفض الانصياع لطلب أخوها الذي يصغرها بثلاث سنوات طالباً منها لبس الحجاب. حججها لا يستطيع إجهاضها أو الرد عليها بذات القوة التي تمتلك سبلها ومفاتيحها بكل مرونة أخته طيبة.
صعقت أنهر في مكانها وهي ترى أعز صديقة لها تهان وتضرب بهذه الطريقة القاسية غير الآدمية ومن أقرب الناس لها، أخوها الذي يصغرها.. كانت طيبة منهارة تماماً وهي تتلقى الضربات واللكمات من كل جهة والدماء تسيل من فمها وأنفها متمرغة في التراب تزحف سائبة وكلماتها القاطعة، الحادة كحافة المقصلة تخرج مسموعة دون ارتجاف:
- العفة يا أخي ليست بغطاء الرأس، ولا علاقة للحجاب بالأخلاق، ثم تواصل بنبرة تجعله يفقد أعصابه أكثر لينهال عليها بالسب والشتم والركل:
- مهما ستحاول وتفعل لن أتراجع عن أفكاري التي أومن بها. أنا لست آثمة، ولم أتنكر للرب إطلاقاً. وما دمت لم أمارس الخطيئة وأعمل بالوصايا العشرة لا يحق لك أن تفرض علي شيئًا لا يعني لي أكثر من قطعة قماش لا تنفع ولا تضر. الرب خلقني مثلك. إنسان حر.

بعقلي أفكر وأعمل وأكون نافعة في المجتمع. يقاطعها،.. يكتم صوتها، يضع يده على فمها بغية إسكاتها ولا يتردد في خنقها للتخلص منها!..
هو لا يقدر على سماع صوت الفكر الحر. الصوت الذي لم يعتد سماعه. يرى من حوله يفعلون ذلك فيقلدهم، هكذا على علاته. لم يعرف لماذا؟ ولم يسألها أو يحاول أن يتفهم موقفها. هو الرجل في ذاته. الفحل الذي يمتلك كل مقومات الحياة دون الأنثى. ماذا تعني الأخيرة له؟ لا شيء. قطعة أثاث ينقلها من مكان إلى آخر، ويمكنه استبدالها أو رميها وقتما يشاء. وعندما يقول لها ألبسي هذا عليها أن تفعل دون نقاش.

الذكر في دولتهم هو الذي يحكم، وهو الذي يعظ، وهو الذي يقطع الرأس!.. في بلده الرجل كل شيء.. فكيف تستطيع طيبة بطيبها وثقافتها وقوة شخصيتها أن ترفض الانصياع؟!
تنهار أنهر في مكانها مصعوقة لمنظر صديقتها.. ترفع يدها، تجد الغطاء يلف رأسها. تشعر بقشعريرة، ترتجف أوصالها. تنظر إلى طيبة وتُعجب بها. كيف كانت تدافع عن منطقها، عن جسمها، عن استقلاليتها كإنسان كامل له مطلق الحرية في اتخاذ ما يناسبه مادام لا يأت بخطيئة، أو إثم، أو أن يتعدى على حقوق الآخرين. طيبة لم تفعل كل هذا. كانت صافية كماء النبع. شديدة الذكاء ومنسجمة مع نفسها، لا تغشها ولا تناقضها. ما يتردد في داخلها يصاغ في فعلها. واضحة لا تحب اللف، مباشرة كالسهم عندما ينطلق نحو هدفه. أنهر كانت تعرف صفات زميلتها جيداً، تقول عنها، طيبة ذهب خالص.. ألتفتت دون قصد نحو قرص الشمس الغارب. وجدته أكثر احمراراً من قبل لحظات، أحست بأن شعرها يحترق تحت غطاء رأسها..
وهي تسترق النظر لطيبة كانت أصابعها تفتح عقدة غطاء رأسها، نزعته غير آسفة عليه، مررت أناملها على شعرها، لم تجد عائقاً كما من قبل، حركت رأسها، تناثر شعرها كسنابل الحنطة الناضجة، فجأة تشعر بأنها أصبحت أقل وزناً، غمرتها فرحة غير متوقعة في لحظات كهذه، هي لم تحسب لذلك حسابا، كانت مترددة لأشهر مضت من فك شبكة غطاء رأسها، ثوانٍ قليلة تمر لتجد نفسها حرة، أكثر جمالاً ونقاء، تشعر بالصداقة مع نفسها، رددت في سرها وهي تقفز بمرح غير مقصود، طبيعي كقرص الشمس:
- أخيراً تصالحت مع نفسي مثل طيبة.

تعليق عبر الفيس بوك