التواصل المؤسسي وحفظ الهُوية الوطنية

 

سلطان بن محمد القاسمي

مع تسارع وتيرة التغيرات في العالم، أصبح الحفاظ على الهوية الوطنية مُهمة تتطلب استراتيجيات مدروسة ومستدامة؛ فالعولمة والتكنولوجيا تؤثران بشكل مباشر على القيم والثقافات المحلية؛ مما يزيد من أهمية التواصل المؤسسي في هذا المجال.

ومن هُنا، يبرز دور التواصل المؤسسي كوسيلة فعَّالة لحماية الهوية الوطنية وتعزيزها. فهو لا يقتصر على الحفاظ على التراث الثقافي الذي يمثل جوهر المجتمع، بل يعمل أيضًا على ترسيخ هذه القيم في نفوس الأفراد.

إلى جانب ذلك، فإنه يسهم في تقوية الروابط بين الأفراد والدولة. ومن خلال الرسائل والإجراءات المؤسسية، يتم تحفيز الأفراد على الالتزام بقيمهم الوطنية، مما يعزز الشعور بالانتماء ويواجه التحديات التي تفرضها التحولات العالمية.

بدايةً، يُعرَّف التواصل المؤسسي بأنه مجموعة من الأنشطة والأساليب التي تستخدمها المؤسسات للتواصل مع جمهورها الداخلي والخارجي، بهدف بناء علاقات قوية وتعزيز صورة المؤسسة وقيمها. هذا التواصل لا يقتصر فقط على نقل المعلومات، بل يتضمن أيضًا نقل القيم والمبادئ التي تؤمن بها المؤسسة، بما في ذلك القيم الوطنية. أما الهوية الوطنية فهي تعبير شامل عن الانتماء المشترك للمواطنين تجاه وطنهم، وتتضمن مجموعة من القيم والمعتقدات والتقاليد والرموز التي تشكل أساس وجود المجتمع وتماسكه.

ولأن التواصل المؤسسي يؤدي دورًا أساسيًا في تشكيل الصورة الذهنية للمجتمع، فإنَّ المؤسسات التي تتبنى الحفاظ على الهوية الوطنية كجزء من رسالتها تساهم بشكل فعَّال في ترسيخ هذه الهوية وتعزيز الانتماء الوطني. من خلال قنواتها المختلفة، يمكن للمؤسسات أن تغرس القيم الوطنية في نفوس الأفراد عن طريق تسليط الضوء على الشخصيات التاريخية والرموز الثقافية، مما يساهم في الحفاظ على هذه الرموز حيَّة في الذاكرة الجماعية. علاوة على ذلك، تستطيع هذه المؤسسات تعزيز التكاتف المجتمعي والوحدة الوطنية، خاصة في أوقات الأزمات والتحديات.

إضافة إلى ذلك، يُعد الحفاظ على التراث الثقافي من المهام الأساسية التي يجب أن تضطلع بها المؤسسات؛ حيث إنَّ هذا التراث لا يُمثل الماضي فقط، بل يشكل الأساس الذي تقوم عليه الهوية الوطنية. هنا، يؤدي التواصل المؤسسي دورًا محوريًا في نقل هذا التراث للأجيال القادمة بطريقة تتناسب مع متطلبات العصر. لذلك، يُمكن للمؤسسات الثقافية والتعليمية توثيق هذا التراث ونشره عبر برامج تعليمية وورش عمل تُعرّف الأجيال الشابة بموروثهم الثقافي. وفي هذا الإطار، تستطيع المؤسسات الإعلامية أن تكون رائدة في إبراز جوانب التراث الثقافي المختلفة من خلال إنتاج محتوى جذاب يسلط الضوء على القصص الثقافية والتاريخية، مما يسهم في توعية المجتمع بأهمية هذا التراث وضرورة الحفاظ عليه.

علاوة على ذلك، يُحمّل العصر الرقمي المؤسسات مسؤولية كبيرة في كيفية التواصل مع الجمهور عبر الوسائل الحديثة. أصبح من الضروري على المؤسسات أن تتكيف مع الوسائل الحديثة للتواصل وأن تستفيد منها في تعزيز الهوية الوطنية. إن وسائل التواصل الاجتماعي، رغم ما تتيحه من فرص للوصول إلى جمهور واسع، إلا أنها قد تشكل تحديًا في الحفاظ على الهوية بسبب الانفتاح الكبير على ثقافات وأفكار متعددة. ولكن المؤسسات يمكنها استخدام هذه الوسائل بفعالية لتعزيز الهوية الوطنية من خلال نشر محتوى يُبرز القيم الوطنية ويروج للتراث الثقافي بطرق مبتكرة وتفاعلية. بالتالي، يمكن للمؤسسات تنظيم حملات رقمية تهدف إلى إشراك الجمهور في الحفاظ على هذا التراث عبر مسابقات أو فعاليات تفاعلية، مما يزيد من ارتباط الأفراد بهويتهم الثقافية والوطنية.

وإضافة إلى ذلك، يجب ألّا نغفل أهمية التواصل الداخلي في المؤسسات، فهو لا يقل أهمية عن التواصل مع الجمهور الخارجي؛ فعندما تتبنى المؤسسات سياسات تواصل داخلي تركز على الهوية الوطنية، فإنها تعزز هذه القيم لدى موظفيها، مما ينعكس إيجابًا على التزامهم وأدائهم. من خلال برامج تدريبية وورش عمل داخلية، تستطيع المؤسسات غرس قيم التراث الثقافي والهوية الوطنية في بيئة العمل، مما يخلق مجتمعًا وظيفيًا يلتزم بهذه القيم ويعمل على نشرها. وعلى سبيل المثال، يمكن للمؤسسات الاحتفاء بالمناسبات الوطنية من خلال فعاليات داخلية تعزز الانتماء الوطني بين الموظفين، مما ينعكس بدوره على تفاعلهم مع المجتمع الخارجي.

ورغم كل هذه الأدوار المُهمة التي يمارسها التواصل المؤسسي، تبقى هناك تحديات كبيرة يجب مواجهتها. من أبرز هذه التحديات هو كيفية تحقيق التوازن بين الانفتاح على العالم الخارجي والحفاظ على الخصوصية الثقافية والوطنية. فالعولمة والانفتاح على الثقافات الأخرى أمر لا مفر منه، لكن يجب أن يتم ذلك بطريقة تحفظ الهوية الوطنية. بالإضافة إلى ذلك، قد يكون من الصعب على المؤسسات الوصول إلى جميع فئات المجتمع، خاصة الشباب الذين قد يكونون أكثر تأثرًا بالثقافات الأجنبية. لذلك، ينبغي على المؤسسات تطوير استراتيجيات تواصل متجددة وديناميكية تستجيب لاحتياجات مختلف الفئات، وتعمل على ترسيخ الهوية الوطنية في وجدانهم.

إنَّ التواصل المؤسسي يظل ركيزة أساسية في الحفاظ على الهوية الوطنية والتراث الثقافي. وبالتالي، المؤسسات التي تدرك أهمية هذا الدور وتعمل بجدية على تعزيز القيم الوطنية في رسائلها وسياساتها، تسهم بشكل كبير في بناء مجتمع متماسك يحترم تراثه الثقافي ويعتز بهويته الوطنية. ولا يمكن تحقيق ذلك إلّا من خلال تبني استراتيجيات تواصل فعالة تهدف إلى إشراك كافة أفراد المجتمع في هذه المهمة النبيلة، ليظل الوطن متمسكًا بجذوره وقيمه مهما تغيرت الظروف.