الشائعات والأخبار المزيفة.. أقوى من الرصاص

 

د. عبدالله باحجاج

تابعنا من خارج البلاد الأسبوع الماضي، ما جرى تداوله من شائعة أو وثيقة مُزوَّرة تزعم تقديم بلادنا أموال لأحد الأطراف الفاعلة في اليمن الشقيق المجاور؛ لتقوية مركزه في الصراع الإقليمي- الدولي على اليمن، وبالذات على موقعه الجيوسياسي والجيواستراتيجي في محافظتي حضرموت والمهرة.

لسنا هنا بصدد تفنيد تزوير هذه الوثيقة؛ إذ إنَّ كل من يقرأها يكتشف من الوهلة الأولى ذلك التزوير، ومَنْ يقف وراءها لم يوفق في الصياغة والمفردات، ولم يُتعب نفسه في الاجتهاد في إخراجها، لكي يتم تمريرها على الرأي العام العُماني والاشقاء المستهدفين في جوارنا اليمني؛ استغلالًا لوقائع ومعطيات صحيحة، وأبرزها علاقات الجوار التاريخية المتبادلة بين البلدين، والديموغرافيا المشتركة بينهما، ووقوف مسقط تنمويًا وإنسانيًا بشكل علني مع جوارها اليمني، ليس حكوميًا فحسب؛ بل ومجتمعيًا، وكل من يَزُور على وجه الخصوص مستشفى السلطان قابوس بصلالة، سيُلاحظ عدد اليمينين الذين يستفيدون من خدمات العلاج فيه.

وكل من قرأ تلك الوثيقة المزعومة، خرج مُسلِّمًا بتزويرها، وبأن وراؤها طرفًا/ أطرافًا بأجندات مُحدَّدة، وأنها اختارت توقيتًا حسَّاسًا في ظل حسابات إقليمية محددة. والتساؤل هنا: كيف لو اُتقِنَت الصياغة ونجحت في المفردات التي تصنع القناعات السياسية والاجتماعية؟ هذا التساؤل نطرحه كاستشراف لإدارة مثل هذه التحديات مُسبقًا في ظل ثورة التكنولوجيا، وبالذات وسائل التواصل الاجتماعي، التي لديها القدرة على إعادة نشر المحتويات بسرعة كبيرة وعلى نطاق واسع، دون التدقيق في محتوياتها وصدقيتها، أو حتى مصداقيتها، وكذلك في ظل تاريخ مثل هذه السوابق في تحقيق أغراضها قديمًا وحديثًا؟

وبالتالي.. ينبغي أن لا تمُر هذه الواقعة علينا دون تحليلها والتنبؤ بمستقبل تكرار مثلها من مختلف السيناريوهات، واستهدافاتها وأغراضها وأشخاصها المحتملين.. إلخ. لذا نقترح إعداد خارطة بالثغرات- إنْ وُجِدَت- والمجالات التي يُتوَقَّع تَسْيِيسَها من الخارج كوسائل ضغط على بلادنا، أو بهدف المساس بأمننا القومي ومناعة منظومتنا الاجتماعية والفكرية، لسببين؛ أولهما: لسدها أو العمل على تحييدها من التسييس، وسنجد ما ينبغي إعادة إدارتها في إطار مسيرة بلادنا نحو تجديد مسيرتها التنموية الشاملة. وثانيهما: أن نكون جاهزين للرد عليها بمهنية، واحتراف الصناعة، وبالواقع والمعطيات الصحيحة. وهذا من أهم الخطوات التي ينبغي أن تُحرِّك تفكيرنا للاستفادة من هذه الواقعة، خاصةً وأنه لا يمكن هنا الحديث عن ضمانات سياسية من عدم استهدافنا مجددًا؛ سواءً لغرض خارجي أو داخلي.

لن نستبعد أن يكون هناك استهداف مُمنهَج، واستدلالنا هنا "حادثة الوادي الكبير"، وقبلها صناعة مزاعم بالتعذيب لأشخاص عابرين للحدود من طرف سلطات بلادنا، والآن واقعة التزوير. كل هذه الوقائع تمثل مؤشرات نبني عليها الآفاق المقبلة؛ فبلادنا لا يُمكن أن تنصاع لمواقف ضد ثوابتها الداخلية والخارجية، أو أن تقف مع تكتلات ضد أخرى أو دول، أو تطمع في أراضٍ وجيواستراتيجية غيرها، ولو كانت دولة لها نوايا توسعية أو أطماع إقليمية لما تنازلت للأشقاء اليمنيين بأراضٍ عُمانية كبيرة إبان حقبة السلطان الراحل قابوس بن سعيد، أثناء ترسيم حدودهما في أكتوبر 1990؛ لدواعي ديمومة الاستقرار بين البلدين، وتثبيت حدودها بصورة مُقنَّنة في وثائق دولية، وهو أكبر دليل على عدم وجود نوايا لأطماع عُمانية في اليمن، وهو لا يمكن للآخرين نفيه.

الحقيقة التي ينبغي أن تعمل عليها بلادنا الآن، أكثر من أي وقت مضى، هي سقوط الرهانات على الأمن الخليجي الجماعي، عبر تطوير قوة أمنية خليجية تمتلك القدرة التقليدية والاستثنائية في حماية أمن واستقرار الدول الست؛ لأن بعضها قد أصبح جزءًا من المشكلة؛ بل وصناعة ديمومتها إلى مستويات تلقي بهواجس وطنية حقيقية.. إلخ. لذلك؛ علينا صناعة هذه القوة الردعية بشقيها الثنائي المشترك "التقليدي والاستثنائي"؛ اعتمادًا على الذات أولًا في تزامن مع الحفاظ وتعزيز مناعة داخلنا- كما سبقت الإشارة اليه- وهذا يُحتِّم مراجعة وتقييم مرحلتنا الوطنية الداخلية، وتحديد القضايا المُستهدَفة.

ولو فعّلنا الفكر الاستشرافي سنجد أن الدول الآمنة- المُستهدَفة- يستوجب عليها العمل الان بمنطق الازمات في التفكير والقول والعمل؛ لأن العالم عامة ومنطقتنا الإقليمية خاصة، قد دخلت حقبة استثنائية غير مسبوقة ذات تحولات تاريخية كبرى، وهنا نستدعي قضية المذابح التي تُرتَكَب في غزة وتداعياتها، والصراعات الإقليمية ذات الأطماع الجيوسياسية والجيواستراتيجية، ومشروع 2025 للحزب الجمهوري لو عاد دونالد ترامب إلى الحكم، بجانب الثورة التكنولوجية العسكرية والمدنية.. إلخ، وسيكون من الأسلحة المستخدمة فيها الشائعات والاخبار المُزيَّفة والتدخل في الخصوصيات والمتناقضات داخل كل دولة، ونتائجها ستكون أكبر وأخطر من إطلاق الرصاص.