فلسطين.. من النكبة إلى الإبادة!

 

د. محمد بن عوض المشيخي **

كم هي مُرَّةٌ هذه الحياة عند ما تتعرض للظلم والخيانة من ذوى القربى، ويخذلك من تتوقع منه نصرة الحق وتربطك به علاقة نسب وتجمعك معه رابطة الدين والتاريخ المشترك والمصير الواحد، فعند المصائب تظهر معادن الشعوب، وحكمة القادة في الوقوف مع الحق الذي هو فرضًا وليس واجبًا فقط؛ إذ تحمل الشعب الفلسطيني من الكوارث والمحن والمصائب -خاصة أبناء غزة- ما تعجز عن حِمله الجبال، فمن نكبة إلى نكسة إلى إبادة القرن الحادي والعشرين!

في يوم 15 مايو من كل عام تُحيي الشعوب العربية، ومعها الشرفاء وأحرار العالم قاطبة، ذكرى النكبة التي تعرض فيها الأشقاء في فلسطين المحتلة للإبادة الجماعية والتهجير والتطهير العرقي من العصابات الصهيوينة التي مكّنها الاستعمار البريطاني الذي جلب هؤلاء المجرمين من مختلف دول العالم، وذلك لإقامة دولة لهذا الكيان السرطاني الغاصب في قلب الوطن العربي أرض الرباط؛ حيث القدس الشريف والمسجد الأقصى مسرى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم. ومن أشهر هذه العصابات اليهودية التي ارتكبت أبشع المذابح بحق الأبرياء من النساء والأطفال والشيوخ (الهاغاناه وهاشومير والأرجون وشترن). ومن أكبر هذه المجازر التي وقعت في عام النكبة، دير ياسين شرق القدس، والتي استشهد فيها أكثر من 300 شهيد، معظمهم من الأطفال والنساء، وكذلك مجزرة قرية الطنطورة جنوب مدينة حيفا. والأهم من ذلك كله هو ما تعرض له أبناء منطقة الدوايمة من قتل وتهجير قسري التي بقيت لفترة طويلة طي الكتمان.

ومن المفارقات العجيبة وبسبب المعايير المزوجة في هذا العالم، حصول رئيس عصابة الأرجون مناحيم بيجن الذي كان رئيسًا لوزراء إسرائيل على جائزة نوبل للسلام بالمناصفة والشراكة مع الرئيس المصري أنور السادات في عام 1979 في أعقاب اتفاقية كامب ديفيد.

الهدف من هذه الذكرى الحزينة هو تذكير العالم بحقوق الشعب الفلسطيني وما يتعرض له من قتل ممنهج من دولة إسرائيل التي تحظى بحماية الحكومات الإمبريالية الاستعمارية الغربية وتقدم لها الأموال والسلاح وتشجعها على القتل الهمجي للأبرياء من الشعب الفلسطيني صاحب الأرض، وفي مقدمة هذه الحكومات: الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وألمانيا وفرنسا، كما يهدف إحياء هذه الذكرى إلى تحقيق حلم العودة إلى الديار التي هُجِّر منها الفلسطينيون بالقوة، فكل فلسطيني بقى على قيد الحياة من تلك المذابح يحمل مفتاح منزله ثم يسلمه إلى أبنائه، وذلك لتذكير الأجيال الفلسطينية في المخيمات والشتات بهذا الحق الأصيل الذي أصبح أقرب للواقع ويمكن تحقيقه بالجهاد المقدس بعد طوفان الأقصى المبارك الذي قاده بحكمة واقتدار المجاهد يحيى السنور رئيس منظمة حماس في غزة الصامدة التي خذلها الأشقاء والأخوة من الأمتين العربية والإسلامية؛ إلّا من رحم ربي.

لقد أصبح حقيقة حلم العودة إلى أرض فلسطين التاريخية -التي تعرضت للتقسيم من خلال القرار الأممي رقم 181 والذي تمثل باعترف الأمم المتحدة بدولة اسمها إسرائيل على أرض ليست لها- قاب قوسين أو أدنى أكثر من أي وقت مضى. ففي صحوة للضمير العالمي، اعترفت الأسبوع الماضي 143 دولة بأحقية فلسطين للحصول على عضوية الأمم المتحدة، وذلك كثمرة من ثمار الصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني؛ وكذلك إنجازات المقاومة الشجاعة في غزة الأبية. على الرغم من اعتراض أمريكا ومعها أذنابها من التابعين لها وعددهم لا يتجاوز 7 من ممثلي بعض الدول الهامشية ومن بينهم بالطبع دولة الكيان الصهيوني الذي مزّق مندوبها ميثاق الأمم المتحدة قبيل التصويت على منح فلسطين العضوية.

يبدو لي أن عصر الخيانات وصنع المؤمرات والارتباط بالأنظمة الغربية ومخططها الاستعماري قد ذهب بلا عودة؛ فالغرب الاستعماري حرص على أمن إسرائيل بأي ثمن، وذلك من خلال الاتفاقيات السرية التي تجعل من بعض الأنظمة العربية مستمرة في الحكم مقابل حماية إسرائيل من الزوال، وذلك من خلال إدارة ظهرها للمقاومة ومحاربة المناضلين ومحاصرتهم. ولعلّنا تابعنا في بداية هذه المعركة وتحديدًا في أكتوبر الماضي كيف توافدت القيادات الغربية على فلسطين المحتلة مُستنكرة قيام المقاومة الفلسطينية باختراق دفاعات الجيش الصهيوني والوصول إلى العمق الإسرائيلي بنجاح منقطع النظير، على الرغم من الحصار الجائر على قطاع غزة من العدو والصديق معًا، فقد حضر عدد من رؤساء الحكومات الغربية مجلس الحرب في تل ابيب، وذلك للتحضير للإبادة الجماعية في غزة بنفس الطريقة التي مارست فيها ألمانيا النازية إبادة اليهود.

وفي أعقاب النكبة وما ترتب عليها من كوارث وقتل وهجرة قسرية للشعب الفلسطيني إلى قطاع غزة والضفة الغربية، ثم إلى دول الجاور مثل سوريا والأردن ولبنان والعراق، والتحوُّل إلى العيش في المخيمات، أصدرت منظمة الأمم المتحدة قرارًا بتأسيس وكالة لغوث وتشغيل اللاجئن الفلسطينين (الأونروا) عام 1949، والتي تهدف بالدرجة الأولى إلى توفير التعليم والصحة وتحسين الخدمات الأساسية في المخيمات، وعلى الرغم من ذلك، فقد حاربت الحكومة الإسرائيلية هذه الوكالة التي تقوم بالأعمال الإنسانية تجاه اللاجئين وتكيل عليها التهم الكاذبة بهدف إنهاء خدماتها وإخفاء جرائمها ضد الإنسانية المتمثلة في التطهير العرقي والفصل العنصري للشعب الفلسطيني. فكانت أولى هذه المزاعم؛ اتهام وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينين (الأونروا) زورًا بمشاركة بعض موظفيها في ملحمة طوفان الأقصى؛ ولكن تقرير اللجنة المحايدة المشكلة من الأمين العام للأمم المتحدة برئاسة الفرنسية كاترين كولونا برت المنظمة الدولية من هذه التهمة، إذ استأنفت بعض الدول الأوروبية مجددا تقديم الدعم المالي (للاونروا) التي أصبحت خصما لدولة الكيان الصهيوني بسبب عدم موافقتها على إغلاق مكاتبها وإنهاء خدماتها المقدمة للاجئين؛ فالحكومة الإسرائيلية تهدف إلى إغلاق ملف اللاجئين الفلسطنيين من الوجود، ولم تكتف بالتهجير والقتل، ولكنها فشلت فشلا ذريعا في ذلك. الأونروا باقية في قطاع غزة على الرغم من استهداف الجيش الإسرائيلي مقراتها بالجملة وتدمير 160 مدرسة وقتل 180 من عمال الإغاثة منذ طوفان الأقصى.

وفي الختام.. حان الوقت للعرب -شعوبًا وحكومات- لأن يستقيظوا من سباتهم والوقوف صفًا واحدًا مع غزة لوقف المجازر والابادة الجماعية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني؛ فالتاريخ لا يرحم من قصّر بواجبه تجاه المظلومين؛ فالعالم بأسره ينتفض لمناصرة غزة، بينما نحن نتفرج على واحدة من أكبر النكبات التي يشهدها كوكبنا عبر التاريخ.

** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري

الأكثر قراءة