رسالة إلى أمي في قبرها

 

سالم بن نجيم البادي

 

للمرة الأولى أُسافر بعد غيابك يا أمي، والى إين؟ إلى المدينة التي فيها المشفى الذي كنت ترقدين فيه، وفي الطريق كنت أفكر كيف لي أن أعود إلى البيت فلا أجدك، أرغبُ بشدة في أن أسرد لك أخباري وحكاياتي، وكل تفاصيل يومي، كما كنت أفعل في كل مرة أعود فيها من السفر.

لقد كان الطريق طويلًا وكئيبًا وكانت غيمة من الأسى تصاحبني ودموعي تنمهر كلما تخيلت أنني سوف أدخل البيت ولا أجدك تجلسين أمام غرفتك بهدوء وسكينة وأنتِ في كامل أناقتك المعهودة، دشداشتك المخوّرة ذات الألوان الزاهية، ووقايتك السوداء، وبرقعك الجديد، ورائحة العطر والبخور تفوح منك دومًا، وسجادة الصلاة والسبحة لا تُفارقان يدك، والعصا رفيقة زمن الشيخوخة.

مضت أيام عزائك يا أمي وقد جاء لتعزيتنا أُناس كثر، وأعرفُ أنك الآن ترغبين في سؤالي إن كنتُ قد التزمت بالذهاب يوميًا إلى خيمة العزاء؟ نعم، فعلت ذلك من أجلك لأنني خشيتُ من عتابك، تقولين لي "زين تحضر مع الناس.. فضيحة ما تصير.. سوف يسألون عنك"! وأنا منذ رحيلك أذهب إلى قبرك بعد العصر أُحب أن أكون بقربك، والشمس في طريقها إلى الغروب.

بالأمس رافقني حفيداكِ: لولوة وعبد الملك، وقد جمعنا لك باقة من الأزهار البرية ووضعناها فوق قبرك، كانت لولوة تحبك كثيرًا وتتعاطف معك، وكانت تهرول نحوي وتقول لي أبي: "جدتي تناديك"، أنتِ تشعرين بوجودي عندما أزورك، أليس كذلك يا أمي؟!

وعلى ذكر الأزهار البرية، لقد جاء المطر غزيرًا جدًا بعد وفاتك، آهٍ لو كنتِ حاضرة وقت نزول المطر، كم تمنيتُ المطر بعد سنوات القحط، كُنّا نفرحُ بالمطر سويًا، وتُبهجنا رؤية البرق وسماع صوت الرعد، وبعد المطر ننتظر اخضرار السهول والهضاب والجبال؛ لنذهب لرعي الغنم وجلب الأعشاب والحشائش.

كنتِ تسألين وأنتِ في المشفى: "جاكم المطر؟ شيء سحاب اليوم؟"، وتسألين عن الصغار والكبار وعن أحوال البيت وعن أبي.. وأبي يفتقدك كثيرًا، ويبدو حزينًا في كل وقت. ليس أبي فقط من يفتقدك، كلنا نفتقدك، حتى الأغنام والجِمال التي كنتِ تذهبين بعد عودتها من المرعى لتقدمي لها العلف، وتحِنُ إليك أشجار النخيل واللومي والياسمين والورد والحناء في البيت، وكنتِ تحبين هذه الأشجار، وتقضين بعض الوقت في الصباح الباكر في رعايتها. تفتقدكِ ضواحي النخيل في البلد، وحين يأتي القيظ هذا العام، لن نذهب معًا لجني الرطب.. أقول لك كل هذه التفاصيل وأنا أحس أن روحك تزورنا بين حين وآخر، تتفقدنا، وتحنو على أرواحنا، وتُطبطبُ على جراحنا، وبعد أن تطمئن علينا تُحلِّق عاليًا عائدة إلى حيث هي الآن.

شاهدتُك في الحلم البارحة، كان وجهك مُشرقًا ومُضيئًا وباسمًا، جثوتُ أمامك على ركبتي، وأنا أُحاول استدراجك للعودة معي إلى البيت، لكنك بقيتِ جالسة كما كانت جلستك وأنتِ في البيت هادئة ومطمئنة وغير مبالية. لقد ذبحني الشوق إليك يا أمي وأحسُ أنِّي كبرتُ وشاختْ روحي قبل جسدي، وكنت لا أعدُ سنوات عمري، لكني اليوم صارت سنوات عمري قلقًا يغتالني في كل لحظة. كنتُ في حضرتك قويًا وأخوض غمار الحياة بروح المغامر والمشاكس والواثق من نفسه حد الغرور، والآن ظهر ضعفي وقلة حيلتي في مواجهة تحديات الحياة القاسية، وجبروت الموت والرحيل والفقد، وضياع الشغف والحماس، وسطوة الحنين الساكن بداخلي على الدوام، وسير الأيام البطيء، وليل الأرق الطويل، والهمّ الذي يُداهمني في منتصف الليل وعند الفجر.

وفي ختام رسالتي، أطلب منكِ العفو والصفح عن كل أخطائي وتقصيري في حقكِ..  مع تمنياتي لك بحياة طيبة في جوارِ ربٍ غفورٍ رحيمٍ.