الأخبار المُضلِّلة ونظرية كمياء الكذب!

د. محمد بن عوض المشيخي **

تُعد الأخبار المُضلِّلة من أخطر التحديات التي تواجه الرأي العام المحلي في مختلف المجتمعات المعاصرة، وذلك لما تحمله مضامين تلك الأخبار من كاذيب وشائعات تعمل على تسميم العقول واستباحتها من خلال خطاب دعائي مُضلِّل باستخدام اسحلة فتاكة تقلب الحقائق وتحول الحق باطل.

والأخبار المُضلِّلة أو الدعاية الرمادية التي تخاطب العواطف وتخترق الوجدان لم تكن بجديدة على الساحة؛ بل تعود إلى أزمنة سحيقة وعصور قديمة قدم الإنسان في هذا الكون؛ إذ يهدف الواقفون خلف ستار تلك الدعايات المغرضة بالدرجة الأولى نشر الفوضى وزعزعة استقرار البيوت الآمنة والمجتمعات المتماسكة والموحدة. وقد تطوّرت أساليب الدعاية بظهور وسائل الاتصال الحديثة، ودخلت للجامعات كتخصص له مساقات ودراسات بحثية متقدمة مستفيدة من العديد من التخصصات؛ كالعوم السياسية والاتصال الجماهير وعلم النفس وغيرها من العلوم الإنسانية ذات العلاقة. وكانت الحربان العالميتان الأولى والثانية من أهم الفترات التي انتشرت فيها الحرب النفسية، وازدهرت فيها الأخبار المُضلِّلة على نطاق واسع، خاصة مع ظهور وزير الدعاية الألمانية في عهد هتلر (جوزيف جوبلز)، والذي يعد من أهم المنظرين في علم الدعاية؛ إذ لم يكن الأول بمختلف أنواعها ومصادرها البيضاء والسوداء والرمادية؛ إذ يعتمد على اختصار مضامين الدعاية في عدة جمل على أن يتم تكرارها على الجمهور مرارا وتكرارا؛فهو الذي قال: "أكذب ثم أكذب حتى يصدقك الآخرين، ثم أكذب أكثر حتى تصدق نفسك".

من هنا كانت الأخبار المُضلِّلة في الإعلام عنوانًا للمحور الأول الذي نظمه قسم الاتصال الجماهيري بجامعة التقنية والعلوم التطبيقية فرع صلالة، وذلك في إطار منتدى "مستقبل الاتصال والإعلام في عصر التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي؛ الاتجاهات والتحديات"، والذي ضم العديد من المتحدثين كالإعلامي التونسي الأستاذ محمد كريشان من شبكة الجزيرة الإخبارية والذي تحدث في العرض الثاني بعنوان: "غزة والأخبار المُضلِّلة"، بينما كان العرض الثالث للدكتور عمر الصيعري بعنوان "الأخبار المُضلِّلة في مواقع التواصل الاجتماعي".

وقد تشرفتُ بأن أكون المتحدث الرئيسي في هذا المحور، بورقة علمية بعنوان "الخطاب الدعائي المُضلِّل في الإعلام العربي"، وتمحور الحديث حول وسائل الاتصال الرسمية في الوطن العربي وتضليلها للشعوب العربية عبر العقود، على الرغم بأن ما تحمله من برامج تركز على انصاف الحقائق وتلميع كبار المسؤولين وتقديمهم كبشر خارقين للعادة، إلّا إنها أصبحت مكشوفة ومن الصعب تصديقها بأي حال من الأحوال.

الغريب في الأمر أنَّ القائمين على هذه الوسائل من الإعلاميين يدركون جيدًا أنَّ برامجهم وخطابهم الإعلامي غير مقبول من الناس ويفتقد للمصداقية، ولا تحقق برامجهم التلفزيونية والإذاعية منها والصحفية، الأهداف المرجوة من الذين يدفعون لها الأموال وينطبق عليهم المثال القائل كالذي يحرث في البحر. وهذه الوسائل الدعائية تنظر بعين واحدة فقط هي عين المسؤول الذي يُحاول أن يُلمِّع إنجازاته الوهمية من خلال الخطاب الدعائي المكشوف للجميع. لقد جندت حكومات عربية جيوشًا من "المُطبِّلين" والأقلام في مختلف المنابر الدعائية التي يجب ألّا نُطلق عليها اسم وسائل إعلام أو الذين ينتسبون لها بـ"الإعلاميين"؛ لكون أن الإعلام يجب أن يكون صادقًا وبعيدًا عن الخطاب الدعائي المُضلِّل الذي يحاول جاهدا قلب الحقائق وتلوين الأحداث والمضامين الدعائية.

إنَّ هذه الوسائل التي تحوّلت إلى أبواق رمادية، وتُمارس التنظير المُضلِّل لا يُمكن أن يكتب لخطابها النجاح والتوفيق بأي حال من الأحوال. وقد أدرك القائمون على وسائل الإعلام في الغرب أهمية المصداقية الإعلامية في كسب عقول الناس وقلوبهم، ليس حبًا في الصدق؛ بل لمعرفتهم بالمستوى المطلوب لتمرير الكذب عند الضرورة من خلال الرسائل والمضامين الدعائية التي تقدم للجمهور على أنها خطاب إعلامي صادق.

من هنا ظهرت نظرية ما يعرف بـ"كيمياء الكذب" التي تشترط تمرير 95% من الرسائل والأخبار الصادقة أولًا بهدف كسب ثقة النَّاس، ثم بعد ذلك يمكن بث مضامين ورسائل مُضلِّلة وكاذبة عند الحاجة دون اكتشاف ذلك من الجمهور الذي تعود على المصداقية من تلك الوسائل. وقد طبّقت الإذاعات الدولية الموجهة للعالم العربي نظرية "كيمياء الكذب"، خاصة إذاعة لندن (بي بي سي) ومونت كارلو الناطقتين باللغة العربية قبل إغلاق الأولى مؤخرًا، بينما كانت وما زالت وسائل الإعلام العربية تعرض خطابًا إعلاميًا يقوم على نظرية الرصاصة أو ما يُعرف بـ"حقنة تحت الجلد" التي تُشبِّه انتقال الأفكار من الإعلام إلى الجمهور كالرصاص أو الحقنة المخدرة التي تسيطر بالكامل على قناعات الناس وعقولهم؛ باعتبار أن الجمهور اعزل ولا يستطيع تجنب مضامين البرامج التي يتلقاها بشكل يومي.

من المؤسف حقًا أن يُشاهد بعض وسائل الإعلام العربية هدفها الأساسي التقليل من إنجازات المقاومة الإسلامية في فلسطين وجنوب لبنان؛ إذ أصبحت قنوات الكيان الصهيوني وصحفهم أكثر مصداقية وأقرب للواقع من بعض وسائل الإعلام العربية التي تجنح إلى محاربة ما يعرف بـ"الإسلام السياسي" الذي يشكل فوبيَا وكابوسًا لدى البعض، حتى ولو كان ذلك على حساب الحقيقة؛ فالحرب الحالية هي دفاع عن الأمتين العربية والإسلامية، وليست حربًا تتعلق بحركة حماس فقط. 

وفي الختام.. لقد وصلت إلى قناعة شخصية أنه لا يوجد إعلام بمستوى بما يُعرف بـ"السلطة الرابعة" التي يُفترض بها أن تراقب كل السلطات الثلاثة وأن تكون ندًّا لها في كشف المستور، وهذا ليس فقط في بلاد العرب؛ بل وحتى في الغرب، فتلك الشبكات الإخبارية تتراجع أمام السلطات والحكومات الغربية عندما تكون هناك حاجة أو مكسب مادي أو قانوني أو حتى سبق صحفي؛ كالحصول على التسريبات من المؤسسات الرسمية في واشنطن ولندن وباريس، فالإعلام هنا- بكل آسف- ضحية للسياسة، وتابع للمتنفذين والقادة في العالم أجمع، ولم يكن في يوم من الأيام ينطلق من مبادئ الحرية المطلقة؛ بل هناك سقف محدود يجب وضعه للإعلاميين ويجب عدم تجاوزه!

** أكاديمي وباحث مختص في الاتصال الجماهيري