جمال بن ماجد الكندي
بعد أكثر من ستة أشهر من العدوان الصهيوني على قطاع غزة، ومُمارسة القتل والتدمير والتشريد والتجويع الممنهج فيها، من قبل عدو غاشم إرهابي، تسانده أمريكا سياسيًا وإعلاميًا وعسكريًا في جرائمه في غزة، منذ بدء عملية طوفان الأقصى، تفاجأ العالم برد إيراني كان مرتقبًا بسبب قصف الكيان الصهيوني لقنصلية إيران في دمشق، والتي بحسب الأعراف الدبلوماسية هي أرض إيرانية.
جاء هذا الرد ليُثلج صدور الثكلى واليتامى، وكل من فقد عزيزًا له جراء العدوان الإسرائيلي. فقد رأينا الفرحة في عيون الغزاويين والزغاريد تعلو غزة، وفلسطين في كل مسيرة وصاروخ يعبران لضرب إسرائيل، ولو لم تصب ما أصاب غزة، فيكفي أنها جعلت الصهاينة يقفون على رجل واحدة قبل الضربة، وبعدها كالخرفان يساقون إلى الملاجئ.
لكن لماذا أصف هذا الرد بـ"المفاجأة" التي تفاجأ العالم بها بتاريخ 14 أبريل؟!
تكمن المُفاجأة كما ذكر كثير من المراقبين السياسيين والعسكريين الأجانب والعرب في أنها جريئة ولم تكن متوقعة، وقد ذكرت وسائل الإعلام الصهيونية أن ما حصل فشل استخباراتي كبير لمن أقدم على ضرب القنصلية الإيرانية في دمشق لأنهم كانوا يرسمون سيناريو أبسط من هذا الرد، بمعنى أن إيران سوف تبلع الضربة، وستستخدم العبارة المعروفة وهي (أحقية الرد في المكان والزمان المناسبين) بمعنى عدم التصعيد في الوقت الحالي، واستخدام أذرع إيران في المنطقة كما هي العادة، أو بعملية أمنية في البر أو البحر. طبعًا هذا التحليل أعدته الاستخبارات الصهيونية، ولذلك قامت إسرائيل بقصف القنصلية الإيرانية في دمشق.
الرد ترجمة لثلاثة أقوال دائمًا كانت تردد من قبل القيادة السياسية والعسكرية الإيرانية، وهي تتمحور في (الأقوال، الخطوط الحمر، الأفعال)، هذه الكلمات الثلاثة كانت استراتيجية إيران تجاه العدو الصهيوني ، والتصريحات الإيرانية كانت دائمًا تُهدد وتتوعد هذا الكيان الغاصب منذ قيام الثورة الإيرانية، لذلك كانت الجمهورية الإسلامية الإيرانية أكبر الداعمين السياسيين والعسكريين لقوى المقاومة في المنطقة، باعتراف هذه القوى سواء في فلسطين أو لبنان. وكان لا بُد من وجود خطوط حمر إذا تجاوزها الكيان الصهيوني وجب الرد حسب الأعراف السياسية في تصنيف سيادة الدول واستقلالها وأحقية كل دولة بالدفاع عن سيادة أراضيها.
قصف إسرائيل للقنصلية الإيرانية في دمشق ترجم الأقوال والخطوط الحمر إلى فعل شهده العالم عبر الفضائيات بتاريخ 14 أبريل، وهذا بحد ذاته إذلال لهذا الكيان الصهيوني، وهو فشل استخباراتي كبير في عدم تقدير ردة الفعل الإيرانية، والتي رسمت استراتيجية جديدة من المنطقة استوعبتها إسرائيل ودعمتها، وسوف تترجم على الأرض في قادم الأيام.
من هنا سوف ندخل فيما وراء الضربة الإيرانية، وماذا حملت، من مبدأ تعزيز محور استراتيجية الردع العسكري، التي هي كانت قائمة بحدودها المعروفة قبل الضربة الإسرائيلية.
وهناك مفهوم متعارف عليه لدى القادة العسكريين والسياسيين في معنى استراتيجية الردع العسكري، يكمن في أن الدول التي تملك هذه الاستراتيجية رادعة للدول المتنازعة معها سياسيًا وعسكريًا عبر الأدوات العسكرية المناسبة، فإنَّ هذه الأدوات هي الرادعة في الوقوع بالهجوم المباشر، مثل ما حصل بين أمريكا والاتحاد السوفيتي إبان حقبة الحرب الباردة واليوم يحصل مع الاتحاد الروسي. وهذه الاستراتيجية عمادها ما عند الآخر من أسلحة مضادة وقوية ومؤلمة.
فهل الرد الإيراني عزز هذه الاستراتيجية التي كانت قائمة بين البلدين، فقد كانت المواجهة بينهما خارج جغرافية أرضيهما مع التحفظ الشديد لأرض إسرائيل فهي أرض عربية فلسطينية.
ولمُناقشة هذا المحور سنذكر ما قاله الإسرائيليون وداعموهم بعد الضربة الإيرانية؛ حيث يذكر معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي "أن إيران تمكنت من إلحاق الأذى بإسرائيل من دون إلزام واشنطن بالرد على الهجوم"، ويعني بذلك التصريحات الأمريكية بأنها لن تشترك في أي هجوم على الأراضي الإيرانية، ولكنها ملتزمة بالدفاع عنها، وهذا يفهم في السياسة أن أمريكا لا تُريد التصعيد وجر المنطقة لحرب إقليمية، وهو الأمر الذي تتمناه إسرائيل في شخص رئيس وزرائها "نتنياهو" من هذه الضربة، في حين جاءت النتائج عكسية. وذكرت صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية "أن عقيدة إسرائيل كسيدة للأمن في المنطقة انهارت وتحولت إلى فشل ذريع وهي إهانة علنية ثقيلة لإسرائيل". والمقصود بهذا الكلام أن إسرائيل بعد الرد الإيراني ليست هي القوة الرادعة الوحيدة في المنطقة، وإذا أرادت الأمن لها، فلتعلم أن هناك قوة إقليمية أخرى مناهضة لها تستطيع سلب الأمن منها، إذ إن الإسرائيلي جبان ويعلم أن فلسطين ليست أرضه، وتجاه أي تهديد أمني ووجودي فالطريق إلى المطار بات معروفًا؟!
وقد ذكر كذلك الإعلام الإسرائيلي المرئي أنه "بعد هذه الضربة، على إسرائيل أن تفكر مرتين في الإقدام على أي هجوم جديد في العمق الإيراني". وذكرت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية أن إسرائيل "واجهت هجومًا أكثر تطورا من أي شيء واجهته حتى الآن"، وقالت كذلك وسائل إعلام إسرائيلية أخرى إن الضربة ربما الأقسى منذ قيام الكيان من ناحية الأهمية والسياق. وهذا يدحض فرضية أن الضربة كانت مسرحية أو متفق عليها.
الضربة الإيرانية حسب ما ذكرته الصحيفة الأمريكية فعلاً كانت متطور وذكية؛ حيث إنها بدأت بطائرات مسيرة قديمة من الجيل الثالث، وإيران تملك جيل متقدم لم يتم استخدمه في الضربة، فكانت هي الطُعم للدفاعات الجوية الإسرائيلية ومن ساندها من الجيش الأمريكي والفرنسي والبريطاني وغيرهم. وحسب المعلومات المتوفرة فقد كانت تكلفة ليلة التصدي للصواريخ والمسيرات الإيرانية ما يقارب مليار دولار أمريكي تم صرفه في ليلة واحدة فقط، مُقابل طائرات مسيرة بعضها لا تحمل رأسًا تفجيريًا كانت الطعم الذي بلعته إسرائيل ومن معها. فقد ذكر الدكتور محمد مرندي وهو بروفيسور في جامعة طهران ومستشار الفريق الإيراني المفاوض في لقاء على قناة الميادين التلفزيونية "أن الضربة الإيرانية محدودة وعبر مسيرات قديمة وصواريخ غير متطورة، فقط 12 صاروخًا متطورًا"؛ وهذه الصواريخ المتطورة هي التي أصابت- حسب المعلومات الإيرانية- القواعد الثلاثة، التي كانت منطلق التخطيط والضرب على القنصلية الإيرانية في دمشق، وإيران أرادت بذلك حسب معطيات هذه الضربة إرسال رسائل لإسرائيل وأمريكا في مدى قدرتها على الوصول لأي هدف داخل فلسطين المحتلة، وصورة الصواريخ والمسيرات فوق الكنيست الإسرائيلي لا تحتاج إلى تعليق.
من خلال هذا المحور نقرأ بين سطوره أن استراتيجية الردع العسكري قوية لدى إيران وتم تفعيلها بشكل عملي خلال الضربة الإيرانية؛ بل أكثر من ذلك فإنها غيرت المفهوم القديم باستراتيجية جديدة ذكرها الدكتور محمد مرندي وهي "أن إيران سترد على أي ضربة تتعرض لها منشآتها أو ضباطها في أي مكان، حتى لو كان ذلك في لبنان أو سوريا"، وهذا تطور خطير تعيه إسرائيل وداعموها.