أمهات غزَّة.. عذرًا ليس فينا المعتصم!

 

د. عبدالله باحجاج

كل استغاثة لامرأة في غزَّة هي أكبر وأعظم من استغاثة المرأة المُسلمة بالخليفة المعتصم بالله الذي حرّك لها جيشًا قوامه 90 ألف مُقاتل من نخبة المسلمين، ومن خيرة القادة العسكريين للدولة العباسية، الذين حطموا أسوار أعظم مدائن الروم، وهل هناك استغاثة في التاريخ كله أكبر من حالات الاغتصاب، ومن الموت جوعًا وعطشًا، ومن هدم المنازل فوق ساكنيها، والتشريد الجماعي ومن المذابح الجماعية؟ لا سيما وأن وسائل الإعلام المختلفة تتناقلها مباشرة من موقع الحدث، أي ليس نقلًا كما هي استغاثة المرأة بالمعتصم، ومع ذلك لم يتردد المعتصم، ولم يستمع لمنجمي بغداد بعدم خوض الحرب، فهزم الروم شر هزيمة، وسنجد على شاكلة هؤلاء المنجمين في كل عصر، وفي عصرنا يتعددون ويتنوعون ويتلونون.

وعبارات مثل "أولادي ماتوا دون ما يأكلون" أو "ماتوا عطشى أو بجراحهم بعد ما تعذر عليهم العلاج"؛ هي صرخات نسائية يومية من غزَّة، وما ذكره المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان من أنَّ إسرائيل قتلت أكثر من 13 ألف طفل في غزَّة، ومئات تحت الأنقاض، وكذلك استشهاد 9 آلاف امرأة، كافٍ لزلزلة الأرض من تحت أقدام الصهاينة، ورغم ذلك، فقد وقفت عواصم عربية لثبات الأرض عوضًا عن زلزلتها، وهذا يرجع إلى اختلاف الزمنيين، زمن الخلافة الإسلامية، وزمن الدويلات العربية. وهنا تتحدد لنا كبرى الإشكاليات المعاصرة التي تكشفها أحداث غزَّة، وهي تتعلق بقضية الاستخلاف في الأرض، وهي المعضلة القديمة/ الجديدة، وتستدعيها أحداث غزَّة من صلب مرجعياتها الإسلامية، وربما تطرح نفسها في حقبة ما بعد الحرب على غزَّة، في ضوء ما استقرت عليه الاستخبارات الأمريكية في تقريرها الجماعي التوافقي لعام 2024، من أن الاحتلال الصهيوني لن يتمكن من القضاء على حركة "حماس" أو ينجح في تحقيق طموحه في تهجير أهل غزَّة، وأن غزَّة ستكون مصدرًا لزيادة الجماعات "الإرهابية" في المنطقة، وكذلك الرهان على وعي الشعوب العربية والإسلامية والإنسانية بعد أحداث غزَّة. إذ إنَّ فشل الأنظمة المعاصرة في وقف المذابح والجرائم الإنسانية في غزَّة، وحجم التواطؤ فيها، سيفتح مستقبلًا قضية الاستخلاف، ومن المتوقع أنه يُناقش الآن في مطابخ الفكر من قبل بعض الجماعات الآيديولوجية، خاصة في الدول التي انفصلت مواقفها عن شعوبها.

لن نحصر دلالات "وا معتصماه" في مفهومه الضيِّق أو التاريخي في سياق زمن الخلافة، وإنّما نوسعه للاستجابات المتعددة للمفهوم؛ فهو في الحالات التي أشرنا إليها والتي وراؤها المرأة الغزّاويّة يُعد عابرًا للحدود العالمية دون استثناء، والأوْلى بها المرأة الإسلامية والعربية، ولماذا المرأة؟ لأنها المستهدفة من الأعداء لقيادة التغيير في أوطانها لتحقيق أجندة أعداء الأمة الإسلامية (النسوية والجندرية مثلًا)؛ ولأنها أصبحت مهيأة لهذه المهمة، فقد أغرق فكرها في ماديات الحياة، وتحصرها في ذاتيتها الضيقة "الأنا" على حساب مهمتها الأساسية، وهي التربية والتنشئة التي سلمتها لخادمات المنازل، ولدينا دراسة تكشف لنا ذلك، ونبني عليها، وسنتناولها في مقال آخر في إطار اهتماماتنا الجديدة بالمجتمع ومتغيراته وتحولاته الجديدة.

ربما دروس ورسائل أُمّهات غزَّة لم تصل إلى ذهنية المرأة العربية والمسلمة، أو أنها وصلت لكنها لم تنفذ لوعيها السلوكي؛ لذلك تحتاج لاستنطاقها بصوت مرتفع. ومن هنا يمكن القول إن أي وعي نسائي يتأثر برسائل أُمّهات غزَّة، وتُترجم فورًا إلى أفعال وسلوك في نطاق محيطها الأُسَري والاجتماعي، فهو يعد هنا بمثابة استجابة لاستغاثات أُمّهات غزَّة، وهُنَّ بهذه الاستجابة يظهرن كالمعتصم في نجدته للمرأة المسلمة في عمورية؛ فالمرأة الغزاوية لم تتخل عن مهمتها التربوية أو تتقوقع في أغلال الذُل والإهانة بعد استشهاد كل أبنائها وزوجها، ولم تُحمِّل المقاومة المسؤولية والتبعات، لأنهم جلبوا لها الدمار والمذابح وفقدان الابن والزوج وأصبحت بلا معيل أو مأوى.. إلخ. وإنما كانت صابرة مُحتسِبَة، وتحوّلت إلى مصدر قوة معنوية للمقاومين، فأمام جثامين أبنائها تخاطب السقف المعنوي العالي، قائلة "استشهد ثلاثة من أبنائي، وهناك اثنان يسيران في الطريق نفسه"، ولم تذرف دمعة واحدة رغم المشهد الدرامي الحزين، وتزلزل العدو بالقول "المرأة الفلسطينية ولّادة"؛ بمعنى أن المخزون الجهادي الاستراتيجي لن ينضب باستهداف الأطفال والشباب. وهذه أم أخرى استُشهِد ابنها الأكبر وأصيب الآخر، فتقول "نحن وأبناؤنا خلقنا الله لرسالة نقوم بها ولا بُد أن نؤديها على أكمل وجه"، وأخرى ترى ابنها وقد دمرته صواريخ العدو وتكتم حزنها وصراخها وتهتف لا إله إلا الله، وتشد من أزر ابنها الآخر ليكون مصيره الشهادة هو الآخر.

وأم أخرى ترتل أمام جثامين أبنائها "إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ" (التوبة: 111)، وتقول: "ليست أرواح أبنائي عزيزة على الله.. لا بُد أن تُحرر أرضنا بدماء أبنائنا".

ولنا في آخر ملحمة استشهادية ما نُعزز به هذا الطرح، وهي استشهاد أبناء وأحفاد إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، فقد وقفت زوجة الشهيد حازم إسماعيل هنية أمام جثامين زوجها وابنتيها داخل القبر الذي دفنوا فيه قائلة "سلم على الرسول، وسلموا على الشهداء، وإحنا من الصابرين، قدمتك لله، والله يرحمكم، الله يسهل عليك يا حافظ القرآن، عيدك في الجنة"، وتابعت "خسئوا.. حازم عاش ما مات، بإذن الله ذهبتم للنعيم، أنا أم شهيدات وزوجة شهيد لا تناشدوا العرب هم الأموات وأنتم الأحياء".

ورسالة أمهات غزَّة لأمهات المسلمين عامة، تدُور هنا حول عودتهن العودة العاجلة لتربية وتنشئة ابنائهن بدلاً من الخادمات، فصناعة الأجيال للأوطان هي مهمة الأم الأولى، لا تفوض ولا تفوت لغيرها، وينبغي أن تتكامل مع بقية شركاء التربية والتعليم، فلا يمكن مواجهة المخاطر الجسام التي تواجه الأجيال الجديدة، وهي متعددة وتستهدف الأخلاق والقيم، دون عودة الدور التربوي للأمهات، وقدوتهن المعاصرة هنا أمهات غزَّة اللائي يقدمن جيلًا مُستعدًا التضحية بالحق في الحياة من أجل المبادئ والقيم، فكل أم مسلمة وواعية عليها أن تُعمِل فكرها في الأدوار العظيمة التي تقوم بها الأمهات في غزَّة، وتقارنها بأدوارهن ومآلاتها الحديثة، وكذلك طبيعة الخطط الأجنبية التي تستهدف المرأة المسلمة، والأسرة على وجه الخصوص.

إيمان أمهات غزَّة لا يُقارن إلّا بإيمان الرعيل الأول من الأمهات في الإسلام، إنه إيمان يصنع معجزات النصر لا محالة، فكيف لا نتأمله في غزَّة؟ وكيف لا نراهن عليه؟ وكيف لا نقف معه؟ خاب وخسر في الدنيا قبل الآخرة من وقف ضده أو شوّش عليه لو بالكلمة، وهم كُثر، فأمرهم إلى الله، ورهاننا نستمده من الآية الكريمة "كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ" (البقرة: 249)، ومن مِنَا لا يشهد أن فئة قليلة من المجاهدين الصابرين في غزَّة تتقدمهم الأمهات غلبوا المحتلين الصهاينة في سويعات، ولولا الداعمين لهم بالمال والسلاح لما كانت لهم قائمة بعد تلكم السويعات، وحتى بعد دعمهم ستنتصر القلة المؤمنة بإذن الله.

وسيدخل التساؤل التالي: كيف لم تُحرِّك استغاثات أمهات غزَّة مشاعر قادة العرب والمسلمين، مثلما حركت استغاثة امرأة عربية واحدة الخليفة المعتصم؟!