ناصر أبوعون
الشرفات الأدبية كثيرة ومتناثرة في الآداب العالمية، ولها نصيب كبير في ذاكرة الإبداع العربي والتراث الشعبي (شعرًا ونثرًا)؛ فما زالت شرفات إبراهيم نصر الله الخمس تتأبّى على النسيان، وما برحنا "شرفة المنزل الفقير" مع سعدي يوسف، ولم تغادر مخيلة الكثير من عُشّاق الحرية ومناهضي الاستبداد حول العالم القصيدة القصيرة: "عندما أموت اتركوا الشرفة مفتوحة" التي أطلّ منها الشاعر الإسباني الشهيد فيديريكو غارسيا لوركا على المضطهدين والثكالى والمغدورين الذين قضوا نحبهم في الحرب الأهلية الإسبانية على أيدي سدنة الدكتاتور فرانثيسكو فرانكو بوهاموند 1936م، والتي كانت بمثابة وصية استنبأ فيها موته مغدورا حين قال: [(عندما أموت/ اتركوا الشرفة مفتوحة/ الفتى الصغير يأكل البرتقال (أستطيع رؤيته عبر شرفتي)/ المزارع يحصدُ القمح/ (أستطيع سماعه عبر شرفتي)/ عندما أموت/ اتركوا الشرفة مفتوحة!)].
وإلى اليوم ما زالت شرفة "لوركا" تترك أثرها في كثير من الكتابات المعاصرة، ولا يوجد جنس أدبيّ أو فرعٌ من الفنون البصريّة يخلو من توظيف "الشرفة" كمفردة تحمل من الكثير من الدلالات، وتشي بطيف متعدد من الإحالات التي لا تستعصي على التأويل.
وفي قصة "الطائر الأزرق" للأديب سعود الطائيّ استدعاء خفيّ، وتوظيف فنيّ غير مباشر لـ"شرفة لوركا" وجملته الشعرية "اتركوا الشرفة مفتوحة" وتطبيق لتقنية الـ"تَّعالي النَّصيّ أو الاتِّساعيَّة النَّصيَّة Hypertextuality" التي توصّل إليها "جيرار جينيت"؛ حيث يمكننا الوقوف في منتصف المسافة بين "شرفة الطائيّ" و"شرفة يوركا" واستدعاء الواقع العربيّ المُعاش لتقليب النظر في المآلات، ومحاولة الإمساك بالخيط الرفيع بين "القصة والقصيدة"، واكتشاف دور تقنية "التَّناص" في تثبيت الصورة الذِّهنية في ذاكرة القراء، والقبض على العلاقة التي جمعت العملين الأدبيين؛ وهي علاقة تُسهم بشكل إيجابيّ في "إنماء النّص السابق" لـ"لوركا" وإعادة زرعه وإحيائه بصورة مبتكرة في قصة سعود الطائيّ.
لكن الملفت للنظر أن "سعود الطائيّ" جمع بين قصتين في نصٍّ واحد، لنصبح أمام طبقتين من النصوص، أو نصٍّ داخل نصٍّ؛ أحدهما غمر الآخر شكّلت تربةً خصبة لإنماء بذرة الفكرة لتنمو وتتفرّع أغصانها وتسيطر على جو القصة، وتلقي بظلالها على رؤوس القراء الذين خاتلهم وانتقل بهم- دون تمهيد- في لمحة خاطفة من "شرفة منصور" البطل الثانويّ في قصته، إلى "شجرة في قرية بعيدة"، وهي المعادل الموضوعي للشرفة، ثم وَرَاىَ عمدًا شخصية "منصور" خلف ظلال الذاكرة الشفيفة، ليُظهِر لنا "القاصُّ" شخصية الطفلة الصغيرة ذات الرداء الأبيض بلون السماء الصافية والمنقوش بعصافير زرقاء تسبح في فضاء حريته. لنعيد اللهاث من جديد خلف فكرة القصّة؛ حيث تتصاعد حدّة الصِّراع الدراميّ ويواجه العصفور الأزرق مصيره، ويلقى مصرعه مغدورًا بأنياب مكنوزة بالسُّمّ الزُّعاف غرسها الثعبان الأسود في عظامه الرقيقة، ليلفظ أنفاسه الأخيرة بين يدي الطفلة الحانيتين.
وعلى منحى آخر، ظهر التوظيف الفنيّ المُتقصّد من "سعود الطائيّ" لثلاثة ألوان (الأزرق والأبيض، والأسود)؛ وفق محددات الثقافة الشرقية تمّ اختيارها بدِقّة لما تحمله من شحنات عاطفية، وبما تكتنزه من دلالات رمزية أثيرية، ولم يكن ذلك اعتباطيًا وليس من صنيع المصادفة التي تتبرأ منها الفنون الإبداعية كافة؛ لينتقل "القاصُّ" بنا من "حدود الدلالة البسيطة إلى لغة الإشارة اللونية"؛ فقد لاحظنا انتقاءه الأزرق في لون العصفور، لما يحمله من رمزية ودلالة (تشاؤليّة)؛ جمعت داخل طقس القصة بين نقيضين: التصالح مع الذات، والعالم في طمأنينة هادئة في مواجهة الصراع مع الأنا والانعزالية المفرطة.
بينما وظّفَ "الطائي" بحُنكة واعية اللون الأبيض في "فستان الطفلة القرويّة" للتأكيد على المشترك الإنساني وإجماع سائر شعوب الأرض على منظومة قيمية موحدة تمثلها الطفولة في سائر الثقافات، وانصهارها في بوتقة عالمية واحدة جمعت على اختلاف أطيافها وتباين توجّهاتها بين العذرية، وطهارة الروح، والمحبة والسلام والبراءة، في مواجهة "الثعبان الأسود" وما يحمله اللون من دلالات جمعت بين الغدر والإقصاء ورفض الحوار المدفوع بكراهية الآخر المختلف ثقافيًا وإثنيًا ومناطقيًا، وإشارة إلى قوى الشر الكامنة، وما تبثه من مشاعر الأسى والكآبة.