الطاقة السلبية

 

عائشة بنت محمد الكندية

تبدأ صفحات يومياتي، بصفتي جَنَى، في الاكتساب تدريجيًا لحكايات حياتي المليئة بالسكون والرتابة. كفتاة لم تُلق نظرة على ملمح سوى اللون الرمادي، فهو يُعبّر عن كل تجربة مرّت عليها في تلك الأرجاء الصغيرة بين الأشجار، حيث يبدو الزمن هناك كمنظر أسود وأبيض، يتدحرج ببطء مخيف يملأ الأفق بالطاقة السلبية والتعاسة، حتى أتى اليوم الغامض، الذي حول حياتي رأسًا على عقب بطريقة لم أكن أبدًا أتوقعها.

وصفت جنى حياتها بأنها كزجاج مكسور يتناثر في كل اتجاه، وتتشتت قطعة قطعة في كل مكان بحيث لا يمكن جمعها وإعادة تركيبها، وكان من الصعب العثور على أي أمل للتغيير أو الاستمرار، وكأنها لم تجد وسيلة لتجميع تلك القطع المتناثرة من الزجاج. ومع ذلك، كانت تحمل بداخلها بصيصًا من الأمل، فقد أرادت توجيه طاقاتها وتغيير أسلوبها نحو الأفضل، وتغيير نظرتها للحياة لترى جمالها وسط هذا التشتت والفوضى.

كانت جنى تعمل في مؤسسة خدمية صغيرة تعج بضجيج المراجعين ونقاشات الموظفين، وتحديات التعامل معهم والتكيف مع كل ما هو جديد. كل هذه العوامل كانت تؤثر على حياتها بشكل كبير، وتجعلها تواجه العديد من التحديات. لكن، على الرغم من أنها كانت تسعى دائمًا لتغيير نظرتها ومُواجهة التحديات بإيجابية، إلا أنها وجدت نفسها مرة بعد أخرى تعود خطوة للوراء بسبب الانتقادات السلبية المتكررة التي كانت تتلقاها. هذه الانتقادات كانت ترسل كرسائل سلبية، تقول لها إنها غير كفؤة وأن تطلعاتها وأحلامها لا تجدها مكانًا في هذا العالم.

جنى بذلت جهودًا جادة ومتكررة في محاولة تغيير الانتقادات والتعليقات السلبية التي وجهت إليها من قبل بعض زملائها في العمل، ولكن دائمًا ما فشلت محاولاتها بسبب عدم رغبتهم في تغيير وجهة نظرهم. هذا الوضع المرهق يعكس الشعور بالإحباط، وفقدان الرغبة في الحضور إلى العمل، وتراجع الإبداع والابتكار والنمو الشخصي. وقد اعترفت جنى بأنهم نجحوا في تهميشها وتجاهل إنجازاتها من خلال تصرفاتهم المتكررة والرسائل التي بعثوها، مما جعلها تفقد شغفها في العمل.

مع ذلك، لا يزال هناك أمل في فهم سبب ذلك وتفسير ردود فعلهم، حتى تمكنوا من الوصول إلى تفسير لوجود شخص لم يتقبل فكرة أن تكون "جنى" مبدعة وملهمة، وبسبب الأنانية، نجحوا في إزاحتها جانبًا ونشر الفوضى والسلبية لتجعلها شخصًا بلا حيوية ولا تحدٍ. حياة "جنى" أصبحت أكثر سلبية بسبب طموحاتهم وغيرتهم في محيط العمل وتأثيره على الأداء وروح الفريق. بينما كانت تعمل بروح جماعية مع زملائها، قررت أنه يجب عليها إجراء تغييرات، ومع كل محاولة للتغيير، شعرت بالإحباط لعدم فاعليتها، فكل مرة ينجحون في إقناعها بشيء يؤثر سلبًا على حياتها الشخصية.

تبادر لذهنها مقولة جميلة لصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم في كتاب قصتي "لا أحب الوشاة والنمامين، يفسدون قلبك، ويوغرون صدرك على النَّاس، ويحطمون المعنويات في المؤسسات، ويقللون من حجم الإنجازات، ويركزون فقط على السلبيات".

وفي غمرة اللحظات التي تبدو فيها الظروف ضاغطة والمعوقات متعددة، لم تتبدل جنى؛ بل استحكمت واستقامت، تحلو بالصمود والثبات كالصخرة القاسية في وجه هبوب الرياح العاتية. كانت تنغمس بعمق في عالم الكتب، تبحث دون كلل عن الحلول والمصادر التي قد تلتقط بصيصا من الأمل، وتقربها أكثر من مبتغاها.

كانت ذات يوم تضع قطعًا من العود الفاخر عند باب مكتبها، لتعطي تلك الروائح الهادئة والجذابة إشارة لكل من يعبر عتبات ممرها، أنها قلبٌ ينبض بالتفاؤل والطموح، متلهفًا لمشاركة هذا الإيقاع الإيجابي مع الآخرين.

ومن بين لفتات الصدف الجميلة التي أرسلتها الحياة لها، كانت الموظفة الجديدة، التي أتت كنور في سماء في أيامها المظلمة، تنبعث منها الحيوية والتفاؤل، فكانت جنى تجد في حديثها وابتسامتها ملاذًا منعشًا، يبعث في قلبها نسمات الأمل والحماس.

تعرفت جنى على شخصيات مبهجة وملهمة، من خلال برنامج "على الطاولة"، والذي يقدم على إذاعة رأس الخيمة حيث رأت في كل ضيف يمر على البرنامج قصةً  يرويها، وخبرة تتسلل إليها كأمواج البحر تحمل معها أسرار الحياة ودروسها.

كانت جنى تحتاج إلى لحظات هدوء وتأمل، في هذا العالم المليء بالضوضاء والضغوط، فوجدت في رياضة المشي وفي لمحات الصباح الهادئة متنفسًا لروحها المتعبة، ووقودًا لنيران الأمل التي لا تنطفئ أبدًا.

وكلما اقتربت جنى من تلك الأروقة المظلمة، زاد تألقها وتميزها، حيث برزت في عالم الإبداع والتميز، متحدية الصعاب وتحديدًا الحياة، بكل ما تحمله من عراقيل وتحديات.

بالفعل، كانت جنى تدرك تمامًا أهمية الإيجابية والتفاؤل في تغيير مسار الحياة، وقوتهما في نحت النجاح وتحقيق الأهداف، فتساءلت في لحظات تأمل: كيف يمكن لهذه الطاقة الإيجابية أن تصنع معجزات داخل بيئة العمل؟ وكيف يمكن للتفاؤل المُصرّ على النجاح أن يمهد الطريق نحو تحقيق الأحلام؟

وكأنما كلمات السرد تمتد لترسم لوحة فنية بألوان الأمل والتحدي، تتشابك فيها خيوط الصمود والإيمان بالتغيير، وتتراقص أمام عيون القارئ كأغنية جميلة تجسد رحلة النضج والتطور. إنها قصة جنى، التي انطلقت بصمود من واقع يبدو عابسًا ومُظلمًا، لتلتقط بين أناملها شعاعًا من الضوء، يحمل معه وعدًا بغدٍ مشرق.

في نهاية هذه الرحلة الروحية، تتساءل جنى بين الفكر والتأمل، عن مدى تأثير الإيجابية والإصرار في تغيير حياة الفرد في بيئة العمل. فقد وجدت في رحلتها الصعبة دروسًا عظيمة، تُعلمها أن الإيمان بالتغيير وقدرة الإرادة على تحقيق الأهداف، يمكن أن يكونان دافعًا قويًا لتحطيم الحواجز وتحقيق النجاح المستدام.

وهكذا.. ترسو خاتمة قصة جنى على شواطئ التحدي والأمل؛ حيث تنبعث روحها المثابرة والإيجابية كنجمة منيرة في سماء الحياة. وبينما تستمر في رحلتها، تعلم جنى أن الطاقة الإيجابية تمثل قوة لا تُقهر، قادرة على تغيير حياة الفرد وبيئته المحيطة، وأنه بالتعاون والثقة والتفاؤل، يمكن لكل شخص أن يبني لنفسه مستقبلًا مشرقًا ومليئًا بالإنجازات والسعادة.

تعليق عبر الفيس بوك