تحيّة إلى فلسطين

 

هند الحمدانية

تَطَوُّر العقل البشري يرتبط بشكل وثيق بتطوُّر اللغة؛ كونها الوسيلة التي بوساطتها نتعلمُ ونُعززُ القضايا والأفكار والمهارات عبر الأجيال؛ فاللغة هي الشريك الأساسي لقوتنا المعرفية المتطورة، الكلمات والحوارات والبحوث والقصائد جسور مُمتدة لتواصل مستمر، ولكن كيف كُنَّا قبل أن نمتلك اللغة ومهارة التحدث؟ وهل هناك لغة فطرية سبقت لغة الحديث والكلمات؟

العنصر المفتاحي والنبع المُهم لتطوُّر الإنسان والجنس البشري، هي لغة الأمهات مع مواليدها الصغار خلال أشهرهم الأولى من الحياة وقبل أن يتعلم المواليد كيفية استخدام اللغة والحديث، لغة التمتمات وألحان الأمهات العفوية وهدهدات الحب الممزوجة بترانيم رقيقة حانية على كل رضيعٍ في مهد أو مُتَرَبِعٍ حِجرَ أُم، لغة الموسيقى الحية التي تنبثق كصبحٍ تنفس فبزغ نوره ليولد التعاطف والتواصل والثقة ويبني ملاحمَ إنسانية متكاملة لا تدركها الأعين ولكن تستشعرها القلوب التي في الصدور.

احتضنت دار الأوبرا السلطانية اللغتين معًا "لغة الكلمة والموسيقى"، في ليلتين استثنائيتين يومي 22 و23 فبراير، ضمن أمسية غنائية موسيقية أحياها الفنان الإنسان مارسيل خليفة، بث من خلالها تحية إلى فلسطين المُباركة. أمسية موسيقية ربطتنا بتلك الأرض المقدسة وبأوجاع وأحلام أبنائها المجاهدين بطريقة لا يمكن للغة وحدها أن تقوم بذلك التواصل، إلّا نادرًا جدًا؛ فالكلمة الصادقة والموسيقى المُبدِعة خلقت نظامَ تواصل اجتماعيًا وإنسانيًا وعقائديًا وتاريخيًا، ساعدنا جميعًا على التضامن والاتحاد والنضال والصمود في وجه الطغاة المُحتلين.

"يا أيها الجرح في صدورنا، يا أيها الفرح المسافر في أغنياتنا، نقول "لا" لطقس الذبح المدنس الذي يقيمه السفاح، لكن دمك الزكي كان يستحق منَّا أكثر: أنتٍ التي تنوبين عنَّا في كف عدوان الجلاد على الضحية، وفي هزيمة حق القوة بقوة الحق المُنتصر. غزة عزتنا وعنوان قيامتنا من تحت أنقاض الهزائم، بابنا إلى غد نصنعه بأنفسنا: فلسطينيين وأحرارا في العالم، غزة تفضحنا وتنصفنا حين تحيي الروح المصادر فينا".. بهذه الكلمات الصادقة افتتح مارسيل خليفة أمسية التضامن والتآزر، مؤكدًا فهمنا المُطلق بقوة أصحاب الحق وبالثمن الباهظ العظيم الذي يُدفع منذ عشرات السنين إلى أن يشاء الله وتُحَرَّر أرض فلسطين ويعود المسجد الأقصى مفتوحًا ومتاحًا لكل المسلمين.

تُعزَفُ الموسيقى، فننسى مخاوفنا الفردية وهمومنا اليومية الضئيلة، وما يُقلقنا، وتتأجج في كل الحضور قوة عظيمة ترافق الموسيقى وتتكاتف مع القصائد النبيلة، تُساعدنا أن نسير باتجاه أمّة متعاضدة وعالم إنسانيٍ متصل بشكل مُطلق، وسط نشيد الموتى: "عودوا أنّىَ كنتم.. فقراء كما كنتم.. غرباء كما كنتم.. يا أحبابي الموتى عودوا.. حتى لو كنتم متم.. صمتا.. صمتا..من هذا الطارق أبواب الموتى؟.. يا هذا الطارق من أنت.. أيكون العالم!! لم يبقَ لدينا ما نعطيه أعطيناه دمنا.. أعطيناه حتى أعظمنا وجماجمنا.. ومضينا مقهورين.. لا نملك إلا بعض تراب لم نعطه....".

تُفتَح كل الجروح وتُستثار المشاعر في أمسية الانتصار للأرض، تؤثر روح مارسيل المشتعلة فينا على كل المستويات الداخلية والحيوية وضغط الدم وضربات القلب، تمنحنا دفعة من العزة أو شعورا بالقشعريرة على طول نخاعنا ثم تدفع البعض منَّا للبكاء، ومارسيل مستمر في الأداء: "نهض للثورة والثأر.. انهض كهبوب الإعصار.. وارجم أعداءك بالنار.. واهتف بالصوت الهدار... الثورة.. الثورة.. الثورة... الثورة نهج الأحرار.. من غزة من قدس العرب.. من أسر النقمة والتعب.. اخرج كالريح ولا تهب.. يا جيل النخوة والغضب.. وتدفق.. وتدفق.. وتدفق.. وتدفق نهرا من لهب....".

في هذه الأمسية المُفعمة بروح النضال، تعلّمنا أنَّ الأغنية تملكُ قوة عجيبة؛ فهي تحرث وتزرع وتنسج وترقص وتقاوم، وأننا من خلالها نستطيع العبور من مكاننا الحالي إلى أرضنا المقدسة المحتلة رغم كل العوائق والحدود، ونحن نمشي ونمشي ونمشي إلى فلسطين المباركة: "منتصب القامة أمشي مرفوع الهامة أمشي.. في كفي قصفة زيتون وعلى كتفي نعشي.. وأنا أمشي وأنا أمشي... قلبي قمرٌ أحمر قلبي بستان.. فيه العوسج فيه الريحان.. شفتاي سماء تمطر نارًا حينًا حبًا أحياناً.. في كفي قصفة زيتون وعلى كتفي نعشي.. وأنا أمشي وأنا أمشي.. وأنا أمشي".

يتفرد رامي خليفة بمقطوعة نضال موسيقية طويلة وعميقة، يعزفها بجسده قبل استخدام البيانو، يضرب بأقدامه الأرض ويرتج جسده وتتطاير خصلات شعره، ألحان تحكي عن قصة الوجع منذ ولادتها بكل مراحلها، نتخيل مع كل نوتة يعزفها رامي أفواج المتغربين والنازحين من بيوتهم، نتذكر صبر الأمهات وقلة حيلة الضعفاء، نتذكر الفتيات والشبان، نتذكر ضحكات الأطفال وبراءتهم المغتصبة، نتذكر آلاف الشهداء وشرف المجاهدين الأوفياء، ورامي ما زال يمهد الطريق الوعرة بين مسقط وغزة بروحه وأصابعه وخصلات شعره، حتى شعرنا نحن الجمهور: أننا أقرب لأرض فلسطين من أرواحنا ومن حيث كنَّا جالسين.

هرمون الأوكسيتوسين يرتفع في مجرانا الدموي بعد كل أغنية ولحن يتزاحم في أروقة دار الأوبرا السلطانية، هذا الهرمون الذي لا يتزايد إلا في مواقف التلاحم الجماعي أو الغناء الإرتجالي العفوي في مجموعة يربطها رابط معنوي أصيل كالحب أو العزة والكرامة، كذلك الرابط الذي جمعنا تحت سقف واحد ونحن ندندن بصوت واحد: "يا نسيم الريح قولي للرشا.. لم يزدني الورد إلا عطشا.. لي حبيب حبه وسط الحشا.. إن يشأ يمشي على خدي مشى.. روحه روحي وروحي روحه.. إن يشأ شئت وإن شئت يشا".

يتصاعد التعاطف وروح الكفاح واليقين بالنصر وتمتد جسور وقناطر ، وحساسيتنا تجاه الألم تتناقص لأننا ضمن أمسية نبيلة، تعزز روح التضامن الأصيل بيننا وبين أهلنا المرابطين في غزة وفلسطين جميعا، فنردد بصوت راسخ مقاوم: "شدوا الهمة الهمة قوية مركب ينده ع البحرية.. يا بحرية هيلا هيلا هيلا هيلا.. شدوا الهمة الهمة قوية جرح بينده للحرية.. يا بحرية هيلا هيلا هيلا هيلا".

نملكُ الكثير لتلك الأرض المقدسة رغم كل الحدود والأقطار والقوانين والسياسات التي تحاول أن تفصل العضو المشتكي عن الجسد الواحد، لكن الجسد تداعى بالسهر والحمى؛ لأن قلبه الصامد ما زال يتوجع، وأسلحتنا بعد الدعاء والمقاطعة عديدة، لغتان تُشكِّلان فلسفة الحياة والوجود والنضال: القصيدة النبيلة واللحن الصادق.

الأكثر قراءة