الأكاديمية التي أصبحت موطنًا للإبداع!

 

د. محمد بن عوض المشيخي **

كان الأسبوع الماضي استنثائيًا بكل المقاييس بالنسبة لي؛ إذ تشرفت بأن أكون ضيفًا ومُتحدثًا في أكاديمية السلطان قابوس لعلوم الشرطة، هذا الصرح العلمي العريق ذو السمعة الأكاديمية الرفيعة في هذا البلد العزيز، وفي واحد من المجالات المتعلقة بتخصصي وهو "الإعلام وإدارة الأزمات في الأوقات الطارئة".

قبل هذه الزيارة، كنتُ اتوقع الأكاديمية، كلية تقليدية لإعداد وتأهيل الضباط المرشحين علميًا وعمليًا لكي يصبحوا ضباطًا مؤهلين للعمل في شرطة عُمان السلطانية فحسب، هذا الجهاز الشُرَطي الذي أبهر الجميع بمنجزاته، والتي أصبحت حديث الساعة وفخرا لكل مواطن عُماني ومقيم في أرجاء سلطتنتنا الحبيبة، ليس فقط في أدائه المميز في حفظ الأمن والاستقرار للمجتمع العُماني وضيوفنا الأكارم من مختلف دول العالم، والذي أصبح بفضل الله وجهود أبنائه المخلصين في مختلف الأجهزة الأمنية مضربًا للمثل على مستوى دول الإقليم مُسجلًا بذلك "صفر إرهاب" في الدراسات والتقييمات الأمنية، ومتصدرًا معظم دول العالم في نعمة الأمن والأمان؛ بل أيضًا في الجودة والتميز والسرعة القياسية في إنهاء خدمات المراجعين من الجمهور مثل إصدار وتجديد الجوازات والبطاقات الشخصية، والموافقة على إصدار الإقامات والتأشيرات للأجانب، وتجديد وفحص المركبات، وغيرها من الخدمات ذات العلاقة بالشرطة.

الكل ينظر أيضًا بعين الرضا إلى مظلة انتشار المحطات والمنافذ الخاصة بفروع الجوازات والأحوال المدنية التي تغطي كل زاوية وركن من أرض السلطنة المترامية الأطراف، وذلك للتسهيل على المواطنين وتخفيف مشقة السفر إلى المدن الكبرى مثلما كان الحال قبل عقد من الزمن؛ إذ كانت إدارات أو أقسام الجوازات والأحوال المدنية، وكذلك إدارة تسجيل وتجديد المركبات محصورة في عواصم المحافظات فقط. الأجمل من ذلك كله متابعاتنا عبر منصات التواصل الاجتماعي قبل أسبوعين لما قاله أحد المواطنين حول المقارنة بين إدارة السمعة الحسنة الموسومة على جبين شرطة عُمان السلطانية، والصورة الذهنية الإيجابية التي انطبعت وارتبطت بخدمات هذا الجهاز الرائع؛ إذ لا تتجاوز مدة الانتظار لإنجاز المعاملات في صالات الخدمة التابعة للجوازات والأحوال المدنية؛ أكثر من 40 دقيقة كحد أقصى، وبين بعض الوزارات الخدمية التي تملك أعدادا كبيرة من الموظفين المكلفين بخدمة المراجعين، لكن على الرغم من ذلك تتأخر المعاملات في هذه الوزارات لأيام، وفي بعض الأحيان لأسابيع دون مبرر! لكن السبب الظاهري هو الروتين الذي يمكن تشبيهه بـ"السرطان" الذي عندما يخترق جسم الإنسان يقضي عليه ويُنهيه، وكذلك المؤسسات. فقد دخل وباء "الروتين" ليُسجِّل حضورًا دائمًا وبقوة في بعض المؤسسات الحكومية، خاصة عند البعض الذين لا يدركون خطورة التأخير ومعاناة المواطنين جراء ذلك، وما يُسببه هذا الروتين من تعطيل للمعاملات وتأخيرها من توترات وقلق على المراجعين.

وبالعودة إلى "أكاديمية السلطان قابوس لعلوم الشرطة"، والتي هي في الواقع عبارة عن مؤسسة جامعية مكتملة الأركان ذات طبيعة إبداعية في مساقاتها العلمية وبرامجها التدريبية؛ فهي أقرب إلى جامعة منها إلى كلية أحادية التخصص، لكون أن هذه القلعة العلمية الشامخة تضم في جنباتها 6 منظومات تعليمية وتدريبية موزعة بين كلية ومعهد ومركز في مجالات علوم الشرطة. وفي مقدمة هذه الهياكل الأكاديمية المتميزة، كلية الشرطة ومعهد الضباط؛ حيث يتمحور واحدٌ من أهداف الكلية في التأهيل العسكري لحملة الشهادات الجامعية أو ما يعادلها من منتسبي الشرطة للحصول على شهادات عليا في القانون وعلوم الشرطة، بينما غاية معهد الضباط الارتقاء بكفاءات وقدرات القادة من الضباط وتنميتها من خلال الدورات والبرامج المتقدمة في آخر ما توصل إليه العلم، والتي تتعلق بآخر التجارب المُستخلَصَة والمهارات المعرفية في مختلف المجالات التي تهم شرطة عُمان السلطانية وترفع من جاهزية أفرادها في مواجهة المستقبل وتحدياته المفترضة.

وطوال أربع أيام متواصلة، سعدتُ بطرح العديد من التجارب العملية المستخلصة من إدارة أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية وصحية؛ وكوارث طبيعية حدثت حول العالم، مع التركيز على الدور الذي ساهم فيه الإعلام بشقيه التقليدي والرقمي في تلك الأزمات التي غيّرت بعضها ملامح المجتمعات التي اكتوت بنارها الحارقة. ومن حسن الطالع أن يكون الضباط الذين اشتركوا في برنامج "الإعلام وإدارة الأزمات في الأوقات الطارئة" على مستوى عالٍ من الثقافة الواسعة، ومُتميِّزين، وعلى إطلاع من قبل على المواضيع المطروحة للنقاش، وهذا يعكس الإعداد والتأهيل الجيد للكادر البشري في هذا الجهاز العريق الذي يحمل بكل فخر اسم ورمزية عُمان وتحت القيادة الحكيمة لحضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه.

تطرقنا في هذه الدورة إلى العديد من الموضوعات التي لها علاقة بإدارة الأزمات الإعلامية وعلى وجه الخصوص مهام "المتحدث الرسمي" الذي يتولى في العادة إدارة الأزمة إعلاميًا؛ حيث يجب أن تتوافر فيه مواصفات معينة مثل: حُسن الاطلاع على سياسة الدولة، والمؤسسة التي يُمثِّلها، والقدرة على إدارة الحوارات وسرعة البديهة، والثقة بالنفس، وقبل ذلك كله أن يكون لديه تفويضًا مُطلقًا من الجهة التي عيّنته في المنصب.

وفي واقع الأمر، لم يكن هذا هو البرنامج الوحيد، فقد تعددت البرامج الموازية لبرنامجنا وتنفذ في وقت واحد ولمجموعات مختلفة والتي وُزِّعَت حسب التخصصات ومجالات عمل الضباط حتى تعمّ الفائدة، فقد تحول (معهد الضباط) إلى ما يُشبه خلية نحل في مختلف التخصصات؛ كتقنية الذكاء الصناعي الذي أصبحت الاستعانة بها ضرورية في معظم الأجهزة المتطورة حول العالم، وكذلك كانت هناك عناوين بارزة لبرامج متقدمة في العديد من الميادين التي أتت في صلب تخصص جهاز الشرطة؛ إذ تم جلب العلماء والمختصين من داخل وخارج السلطنة. ويبدو لي أنه قد ذهب الزمن الذي تترك فيه الأمور للصدف أو حسب الظروف بلا رجعة.

وفي الختام.. يجب التأكيد هنا على أن الدراسات الاستباقية لاستقراء مستقبل الأزمات من أفضل الطرق للاستعداد لها، والانتصار على آثارها التي قد تكون مدمرة، وذلك من خلال اتباع منهجية علمية واضحة المعالم تتمثل في رصد إشارات تلك الأزمات المتوقعة ومحاولة محاصرتها قبل وقوعها أو التقليل منها في حالة حدوثها. ولا يُمكن السيطرة على أي أزمة أو حتى التقليل من آثارها الكارثية، إلّا بوجود إعلام وطني صادق يكون سندًا- وليس خصمًا- في إدارة الأزمات الطارئة، وقبل ذلك كله ايجاد فريق متخصص لإدارة الأزمات؛ سلاحه المعرفة والتدريب المتقدم والإطلاع الواسع على الدروس والعِبَر المُستخلَصَة من الأزمات السابقة.

** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري