د. محمد بن عوض المشيخي **
تتجه الأنظار إلى جامعة الدول العربية كلمّا حلت مصيبة بالعرب، باعتبارها البيت الكبير الذي يضم أكثر من عشرين دولة عربية؛ لكونها تعد واحدة من أقدم التجمُّعات القومية في العالم؛ لأمة عربية خالدة بعثها الله رحمة للناس جميعاً؛ فدينها الإسلام في المجمل ولغتها لغة الضاد من المحيط إلى الخليج، وعلى الرغم من ذلك، لم تحظَ هذه الجامعة يومًا ما برضا المواطن العربي.
لقد أصاب هذا الكيان الضعف والوهن بسبب الخلافات العربية التي تزامنت مع ظهورها مباشرة بين ما يعرف بالتيارات القومية العربية والتي تقودها في ذلك الوقت تيارات البعث والناصرية من جانب، والأنظمة التقليدية في الوطن العربي التي تقودها دول الخليج والممالك الأخرى كالأردن والمغرب من جانب آخر. ولا شك أنه كانت الغاية النبيلة للعرب في ذلك الوقت- الذين خرجت بلدانهم من قبضة السيطرة الأجنبية والنفوذ الدولي في الأربيعنيات من القرن الفائت- العمل كفريق واحد نحو الوحدة والاندماج لتأسيس كيان عربي موحد أمام القوى الاستعمارية التي كانت وما تزال طامعة بثروات العرب والسيطرة على قراراتهم السيادية ومصير أجيالهم ومستقبلهم السياسي والعسكري. فقد اتخذت هذه الرابطة التي أطلق عليها "بيت العرب الكبير" قلب الوطن العربي النابض القاهرة مقرًا لها، وكان من أهداف هذه الرابطة أيضًا النهوض بالإنسان العربي والارتقاء به في مختلف المجالات التنموية والاقتصادية والثقافية، والأهم من ذلك كله معاهدة الدفاع العربي المشترك التي وقعت عليها الدول الأعضاء في عام 1950 في القاهرة؛ لكي تقوم بالدفاع عن الأمن القومي العربي على امتداد الوطن العربي الكبير، ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن؛ إذ لم يتحقق إلا القليل من طموحات العرب وآمالهم نحو الوحدة الشاملة.
دور الجامعة في المحافل الدولية غير ملموس، ووجوده كعدمه، والأسوأ من ذلك كله أن 75% من المشردين واللاجئين في هذا العالم هم من العرب؛ بل أصبح الدم العربي الذي يُراق في كل الطرقات، الأرخص على الإطلاق في هذا الكون؛ سواءً كان ذلك من الصهاينة في فلسطين المحتلة أو التنظيمات الإرهابية التي تتخذ من الدين الإسلامي غطاءً لها في العراق وسوريا أو الأنظمة المستبدة التي تقتل وتسجن لتبقى في السلطة بأي ثمن ولو كان ذلك فوق جثث ضحاياها في العديد من الدول العربية. والأخطر من ذلك كله تخاذل الجامعة العربية عن الدفاع الأمن القومي العربي في معظم الحالات؛ إذ تحولت تلك المعاهدات إلى حبر على ورق فقط.
هذا لا يعني بأي حال من الأحوال أنَّه لا توجد اجتماعات قمة طارئة ودورية أو على مستوى وزراء الخارجية، ولكن كانت نتائج تلك القرارات طوال العقود الماضية لا تساوي قيمة الحبر المكتوب بها تلك البيانات التي تهدف بالدرجة الأولى ذر الرماد في العيون؛ بل إنها في الخانة الصفرية ولا أحد ينتظر منها فائدة تذكر. ومع مرور الأيام أصبح يشار إلى هذا البيت العنكبوتي المتصدع بهذا المعنى؛ هنا تجتمع الحكومات العربية على ديباجة معروفة "اتفق العرب ألا يتفقوا".
لقد كشفت الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة قلة حيلة هذه الرابطة واستسلامها للأقدار الصعبة، على الرغم من أنها على مرمى حجر من قطاع غزة، بينما تقوم جمهورية جنوب أفريقيا بالدور المفترض للجامعة والمتمثل في تقديم الصهاينة المجرمين من الحكومة وقادة الجيش الإسرائيلي إلى العدالة الدولية في محكمة العدل الدولية، في غياب كامل للعرب عن المشاركة في هذا الشرف العظيم؛ بل وحتى جميع منظماتهم الحقوقية التي تزعم أنها تدافع عن حقوق الإنسان العربي غابت. وقد أحدث هذا الموقف زلزالًا كبيرًا في نفوس الجماهير العربية وكان ذلك بمثابة إطلاق رصاصة الرحمة على هذه الجامعة ومستقبلها المخيب للآمال.
لا شك أن قوة العرب في وحدتهم وتكاتفهم ونبذهم للخلافات والضغائن بين الإخوة والأشقاء الذين تربطهم علاقة النسب والمصير الواحد والتاريخ المشترك وروابط الدم الواحد، فهم يشكلون أكثر من 5% من سكان المعمورة، بينما تشكل مساحة الوطن العربي حوالي 10% من المساحة الكلية للعالم.
أثمن ما يملكه العرب اليوم هو الموقع الجغرافي الفريد المتمثل في المضاييق الاستراتيجية في العالم مثل: باب المندب ومضيق هرمز وقناة السويس وجبل طارق، والأهم من ذلك كله الموارد الطبيعة والنفط والغاز، والأرصدة المالية في البنوك الأجنبية التي قد لا تعود لأصحابها يومًا، فكان من المفترض أن تستخدم كل تلك المزايا المتمثلة في القوة الضاربة للعرب في الضغط على الدول الغربية المساندة لإسرائيل لوقف عدوانها على قطاع غزة بل وحتى التهديد والتلويح بذلك. أين نحن اليوم مما تم اتخاذه في حرب أكتوبر 1973 عندما قال الملك فيصل- طيب الله ثراه- قولته المشهورة "البترول العربي ليس بأغلى من الدم العربي"؛ إذ تم إغلاق باب المندب أمام السفن الإسرائيلية وقطع النفط العربي عن أمريكا والدول الغربية المساندة للصهاينة.
في الختام.. يجب التذكير بأن الذي ينقص العرب في هذه المرحلة التي تتعرض فيها الأمة العربية للخطر الوجودي؛ هي الإرادة الصادقة باستقلال القرار العربي وتوحيده لتحقيق أهداف الشعوب العربية في الحياة الكريمة بعيدًا عن الإملاءات الأجنبية من الشرق والغرب، ولعل وقف الإبادة بشكل سريع، كما إن فك الحصار الظالم عن الأشقاء في غزة هو الطريق الوحيد للنهوض من مستنقع الذل، ولا يمكن أن يحصل ذلك إلّا بالتمسك بديننا الحنيف وقيمنا الخالدة والوقوف صفًا واحدًا أمام الأعداء.. وهنا استحضر حكمة خليفة المُسلمين الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي قال: "نحنُ قومٌ أعزّنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العِزّة بغيره أذلّنا الله".
** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام