خذلناهم.. ولم تخذلهم جنوب أفريقيا!

 

د. عبدالله باحجاج

عندما تقدمت حكومة جنوب أفريقيا بطلب عاجل إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي بمملكة نيذرلاند، تتهم فيه الاحتلال الصهيوني بارتكاب أعمال إبادة جماعية في غزة، وتطالب بوقف عدوانه، واتخاذ إجراءات عاجلة لحماية الشعب الفلسطيني في غزة، تساءلتُ عن الدوافع التي تقف وراءها حتى تُصعِّد موقفها من الإدانة إلى اللجوء إلى العدالة الدولية، وتضعها- أي العدالة الدولية- في اختبار تاريخي لوقف العدوان وإدانة الاحتلال، بعد فشل مؤسسات الأمم المتحدة كمجلس الأمن؟

وتساءلتُ كذلك: هل يمكن للعدالة الدولية أن تُنصف الشعب الفلسطيني؟ وما رهانات جنوب أفريقيا على إنصاف محكمة العدل الدولية؟ وكانت تُسيطر على ذهنيتي أثناء الكتابة حالة الخذلان العربي والإسلامي- في أغلبه- للشعب الفلسطيني في غزة، وعندما استحضرتُ الحديث الشريف التالي، انتابني الخوف من المآلات. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما من امرئ يخذل امرءًا مسلمًا في موطن ينتقص فيه عرضه، وينتهك فيه من حرمته، إلّا خذله الله تعالى في موطن يحب فيه نصرته، وما من أحد ينصر مُسلمًا في موطن ينتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته، إلّا نصره الله عز وجل في موطن يحب فيه نصرته".

من هنا نخشى على المآلات جرّاء الخذلان، خاصة وأنها إن وقعت- أي المآلات- فهي تأتي في حقبة جيوسياسية دولية وإقليمية مُتحوِّلة بمفهوم الصيرورات، فكل من يخذل غزة المسلمة، كيف سيكون مصيره بمنطوق هذا الحديث النبوي الشريف، وهناك أحاديث كثيرة عن الأخوَّة الإسلامية ووجوب نصرتها وعقوبة خذلانها. فكل من وُفِّقَ بموقف مشرف مع غزة؛ سواءً كانوا أفرادًا أو جماعات أو أنظمة، فليعش آمنًا مطمئنًا على مستقبله الدنيوي والأخروي، والعكس، سيكون القلق ملازمًا في يقظته ومنامه.

ويظل موقف جنوب أفريقيا التاريخي فوق العقول السياسية المعاصرة، ومتجاوزا كل أفكارها البرغماتية المضطربة، وكلنا نعلم أن جنوب أفريقيا قد عانت مثل دول العالم الثالث من الاستعمار البريطاني، كما عانت قرونًا من التفرقة العنصرية حتى عام 1994 عندما تحقق لها النصر بزعامة نيلسون مانديلا، لذلك فهي تدرك معاناة أهل غزة، وتشعر بعمق آلامهم نتيجة وحشية الصهاينة المحتلين، وترى في واقع الفلسطينيين تجربتها التاريخية بكل ما فيها من إبادات وإهانات للكرامية الإنسانية. وهذا يوضح أن دافعية تضامن جنوب أفريقيا الصلب مع غزة، واستفرادها به، وراؤه تاريخ الآلام والمعاناة المشتركة مع الفلسطينيين في جرائم الحرب والتفرقة العنصرية، لذلك فمحركها هنا المبدأ المجرد، رغم أنها أكبر شريك تجاري للصهاينة، وهي تبدو هنا مستعدة التضحية بمصالحها من أجل المبدأ وتاريخها النضالي.

وهنا انتصارٌ للمبدأ وللتاريخ على المصالح وضغوطاتها السياسية، وهنا أكبر الدروس المعاصرة تقدمها جنوب أفريقيا للعالم الحر، وهنا أكبر ضربة موجعة للكيان الصهيوني، وأكبر انتصار للفلسطينيين، وأكبر إحراج للأنظمة العربية والإسلامية. ولنتخيل هنا السيكولوجية السياسية لجنوب أفريقيا من خلال تصعيد موقفها ضد الصهاينة، إنها تربط بين ما كانت تعانيه من تجربة الاستعمار البريطاني وحقبة العنصرية، وما يعانيه الفلسطينيون من الاحتلال الصهيوني وجرائمهم المستمرة حتى الآن بدعم من القوى الغربية على رأسهم لندن وواشنطن، لذلك، لا نستغرب موقفها الأصيل رغم الأضرار التي ستلحق بها؛ بل إنها تظهر الآن شبه مُنعزلة في المواجهة القضائية والسياسية ضد الصهاينة.

شبه منعزلة، لأنَّ هناك دولًا مثل ماليزيا تتضامن معها، وسلطنة عُمان التي طالبت مبكرًا بمحاكمة الصهاينة على جرائمهم.. وليس هناك دولة عربية- حسب متابعتنا واتصالاتنا عند كتابة هذا المقال- تساند جنوب أفريقيا في محكمة العدل الدولية، في قضية العرب والمسلمين الأولى، وهي قضية إسلامية وعربية أصيلة، الحياد فيها خط أحمر، والانحياز للصهاينة جريمة تاريخية لن تغتفر، وستُطارد المحايدين والمنحازين حتى داخل قبورهم، وستكون السبب والمُسبِّب معًا في إحداث الصيرورات التاريخية السياسية والطبيعية، وفق مرجعية الكثير من النصوص الشرعية. وهنا ندعو إلى الإسراع في تصحيح الخُذلان العربي والإسلامي عاجلًا؛ فالحديث الشريف الذي أوردناه سابقًا مُزلزل لكل من يتمعَّن في حيثياته ومدلولاته.

والحياد والانحياز الإسلامي والعربي يُكسب جنوب أفريقيا الصدقية والمصداقية في تضامنها مع غزة، ويمحنها ثقة مستدامة، ويفسر استقلالية قرارها المطلق، ويمنحها التقدير والاحترام من الشعوب الحرة، ويصنع لها تاريخًا إنسانيًا لن ينسى. لن ينسى في ذاته المجردة، ككون خطوتها الوحيدة عالميًا وإقليميًا، وككون أن من كان يفترض الوقوف معهم من بني دينهم وعروبتهم يكتفون بالمناشدات والمطالب، وتركوا جنوب أفريقيا لوحدها تواجه الصهاينة والدول الغربية الكبرى.

يا له من مشهد دراماتيكي تراجيدي، سيقف التاريخ حائرًا في كيفية توثيقه، وكيفية مقارنته مع الحياد والانحياز للأنظمة العربية والإسلامية.

إن الإحساس بالآلام والمعاناة الإنسانية المشتركة ليس السبب الوحيد الذي يقف وراء الموقف التاريخي لجنوب أفريقيا من القضية الفلسطينية، وإنما هنا تبرز شخصية دولة كبرى مُقبلة، تظهر الآن من كوكب الاقتصاديات الناشئة الواعدة، وتتطلع إلى العالمية بمبادئ إنسانية مهنية ذات توجهات غائية لإقامة كيان عالمي جديد موازٍ أو بديل عن النظام العالمي الذي يحدث في عهده جرائم حرب بغطاء دولي، وكبرى دوله تساهم مباشرة فيه، مثل دول حلف الناتو، وعلى رأسهم بريطانيا وأمريكا، ليس في غزة فقط، وإنما لها سوابق مأساوية في أفغانستان والعراق، وغيرهما.

جنوب أفريقيا ضمن تكتل "بريكس" الذي يضم كذلك روسيا والصين والبرازيل والهند، ويسعى إلى إعادة تشكيل النظام العالمي من خلال تحويل القوة من الشمال العالمي إلى الجنوب العالمي وفق أسس ومعايير جديدة، وقد أنشأت مؤسسات داعمة مثل بنك التنمية برأسمال 50 مليار دولار، ويعمل كبديل عن صندوق النقد والبنك الدوليين. صحيح أن منشأ هذا التكتل اقتصادي، لكنه ذو طابع سياسي وعسكري، كما تُعد جنوب أفريقيا دولة فاعلة ومؤثرة في المجموعة الاقتصادية الأفريقية التي تهدف إلى إنشاء منطقة تجارة حرة، أو اتحاد جمركي، وسوق موحدة، وبنك مركزي، وعملة موحدة، وبالتالي، فهي تُقدِّم ذاتها من خلال موقفها من العدوان الصهيوني ومجازره على غزة، على أنها دولة المبادئ لا تُجامل فيها كبيرًا ولا صغيرًا، ولا يهمها مصالحها المتضررة، وأنها قائدة لتوجهات عالمية وإقليمية ذات صبغة إنسانية عالية، وأنها دولة يمكن الاعتماد عليها.

كانت جنوب أفريقيا من بين أكبر المجمعات الصناعية العسكرية في العالم، لكنها تراجعت عالميًا، وكشفت الإحصاءات الصادرة عام 2018 عن صندوق النقد الدولي أن نيجيريا وجنوب إفريقيا هما أكبر الاقتصادات في إفريقيا؛ حيث يبلغ إجمالي الناتج المحلي لهما مجتمعين حوالي 750 مليار دولار، وهنا فرص كبرى لسلطنة عُمان للدخول معها في شراكات استثمارية كبرى، وذات أبعاد استراتيجية عميقة، خاصة في ظل نجاح مسيرتها الاستثمارية الداخلية والخارجية، وتركيزها على مبدأ البرغماتية في النفع والانتفاع المشترك، فجنوب أفريقيا هي المستقبل الذي ينتظره العالم الجديد؛ سواء في إطار مجموعة بريكس أو المجموعة الأفريقية الواعدة، أو لذاتها المجردة بمقوماتها الاقتصادية وفرص الاستثمار فيها الضخمة، خاصة الآن بعد ما قدمت ذاتها على أنها دولة المبادئ والانتصار لها.

إن الدول التي تخشى من واشنطن ولا تخشى من مآلات خُذلان غزة، نقول لها: في أي عصر نحن يا عرب ويا مسلمين؟ سيأتي زمن، ونراه قريبًا، أن كل من خذل غزة، سيطلب النصر، ولن يلقاه، وسينعكس خذلانه عليه، وهذه حتمية الفعل وردة الفعل؛ بل وصيرورتهما الزمنية والمكانية.

ومهما كان حكم محكمة العدل الدولية، سيظل موقف جنوب أفريقيا تاريخيًا، ومقدرًا بالتقديرات الإنسانية المجردة العالية والمستدامة، لكننا ورغم ذلك، نتوقعه حكمًا ينصف غزة، ونتوقعه سريعًا، وليس كما يعتقد أنها ستكون محاكمة طويلة الأمد؛ لأن هناك ضحايا يسقطون على مدار الساعة، والقضاة يمثلون ضمائر الإنسانية، وهم يشهدون إبادتها الجماعية في غزة، لذلك نتوقع إدانة الصهاينة، والمطالبة بوقف عدوانهم عاجلًا.

ومحكمة العدل الدولية هي الجهاز القضائي الرئيسي للأمم المتحدة تتألف من 15 قاضيا، تنتخبهم الجمعية العامة ومجلس الآمن التابعين للأمم المتحدة لولاية مدتها 9 سنوات، وكل من تتبع القضايا التي انتصرت لها المحكمة سيتفاءل بحكمها لصالح الإنسانية في غزة، وهي إنسانية، وقد أصبحت قضية الشعوب الحرة في العالم كله، وليست فحسب قضية إسلامية وعربية.