غزة.. تصفية القضية الفلسطينية أم نهاية لأوهام إسرائيل؟

 

 

مرتضى بن حسن بن علي

 

وسائل الإعلام الأمريكية والغربية والإسرائيلية تتناول الحرب في غزة من أبعاد مختلفة، حيث إنَّ عددًا كبيرًا من المحللين والخبراء يصفون عملية "طوفان الأقصى" بالزلزال المدوي الذي أصاب إسرائيل، والذي سيكون له تداعيات وارتدادات كبيرة لسنوات قادمة، حسب النتائج التي ستسفر عنها الحرب، كما تشير إلى أنه بعد دخول الحرب شهرها الرابع مع القصف المدمر وإيقاع ألوف الشهداء من المدنيين وعشرات الآلاف من الجرحى، ما زال الجيش الإسرائيلي بعيدًا من تحقيق أهدافه المُعلنة، ويدفع ثمنًا غير قليل من حياة جنوده، مع أنه يمتلك أسلحة ضخمة ومتطورة هي أوج ما اخترعه علم تطوير الأسلحة التكنولوجية العالية.

الحرب لن تنتهي بعزل بنيامين نتنياهو ومثوله مع رؤوس كبيرة من كبار ضباط الجيش والأمن المتعطشين للدماء إلى المحاكم، بسبب ما يعتبره منتقدوهم عدم اهتمام بالتحذيرات عن خطط حماس فحسب؛ بل ربما ينتهي الأمر بأن تتغير إسرائيل نفسها ومعها الشرق الأوسط. غير أن نوع ومدى التغيير سوف يعتمد على نتائج الحرب.

يعتقد العديد من المراقبين أن حكومة نتنياهو لن تقبل بوقف الحرب قبل أن تحقق أهدافها. حسابات نتنياهو قد تصل لخيار شمشون - أي عليّ وعلى أعدائي، وقد تجر المنطقة كلها لحرب جديدة.

ويبدو أن النصر الواضح لنتنياهو ليس بتوجيه ضربة قاصمة لحركة حماس وبنيتها العسكرية والتنظيمية والقيادية فحسب؛ بل يتجاوز ذلك ليشمل تهجير الفلسطينيين ليس من غزة فقط، وإنما من الضفة الغربية وإسرائيل؛ تمهيدًا لتحقيق حلم إيجاد "دولة يهودية من النهر إلى البحر"، لا وجود لمسلم او مسيحي فيها وتصفية القضية الفلسطينية برمتها وبناء شرق أوسط جديد من دون فلسطين.

ويعتقد عدد من المحللين أن وقف الحرب لأي سبب من دون نصر واضح يعني سقوط نظرية الردع الإسرائيلية سقوطًا مدويًا، من دون جباية ثمن متناسب مع المتسبب؛ الأمر الذي سيشجع "حماس" و"حزب الله" في لبنان و"أنصار الله" في اليمن والمقاومة في العراق، إضافةً إلى سوريا وإيران، على توجيه ضربات مُماثلة، ما يضع أسئلة عديدة على مستقبل وجود إسرائيل نفسها. حكومة نتنياهو قد لا تضع حياة الأسرى قيدًا للاستمرار في حربها، رغم أنَّ ذلك إضافة إلى القضاء على حركة حماس، يعتبران هدفين رئيسين لنتنياهو في تبرير الحرب وإطالتها.

على مرِ العقود، يرى الإسرائيليون أنَّ وجود الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية وداخل إسرائيل يشكل تهديدًا لطابع إسرائيل "كدولة لليهود فقط". ديفيد بن جوريون أول رئيس للوزراء في إسرائيل صرح ذات مرة قائلًا: إنَّ "العرب يجب ألا يظلوا هنا، وسأبذل قصارى جهدي لترحيلهم إلى دولة عربية أخرى". الولادات الفلسطينية داخل إسرائيل تزيد ثلاثة أضعاف الولادات اليهودية، والذي يعني انه في نحو 20 سنة سيصبح الفلسطينيون اكثر عددًا من اليهود، الذين سوف يتحولون في عام 2040 إلى جيب سكاني صغير في محيط ديمغرافي فلسطيني كبير. كما إن تحول إسرائيل إلى دولة لقوميتين يلغي مبررات قيام إسرائيل. هذه الحقيقة مُفزعة للإسرائيليين الذين يحاولون تفكيك القنبلة الديمغرافية الفلسطينية بكافة الوسائل قبل استفحال أمرها وقيامها بقلب الموازين على أرض فلسطين التاريخية. لهذا السبب ارتفع شعار "إسرائيل دولة لليهود فقط من النهر إلى البحر" في السنوات الأخيرة بهدف تعويد العالم عليه تمهيدًا لطرد كل الفلسطينيين سواء في داخل إسرائيل أو الضفة الغربية أو غزة. ولهذا السبب ترفض إسرائيل بكل الطرق قيام الدولة الفلسطينية وانسحاب إسرائيل إلى حدود عام 1967.

اعتمدت جميع الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة منذ عام 1967 سياسة بناء المستوطنات وتوسيعها وتقديم الحوافز والتسهيلات لتشجيع هجرة اليهود من الخارج. وبعد ان كانت الضفة الغربية خالية تمامًا من المستوطنات عام 1967، بلغ عددها نحو 176 مستوطنة و186 بؤرة استيطانية في نهاية عام 2022، ويسكنها نحو 750 ألف مستوطن، بعد أن كان عددهم نحو 150 ألفًا في عام 1993، وهو العام الذي تم فيه التوقيع على اتفاقية أوسلو. وشكلت المستوطنات الإسرائيلية ما نسبته 42% من مساحة الضفة الغربية، وتمت السيطرة على 68% من مساحة المناطق الفلسطينية تحت الإدارة الذاتية للسلطة الفلسطينية لمصلحة المستوطنات، وهي منطقة تضم 87% من موارد الضفة الغربية الطبيعية و90% من غاباتها و49% من طرقها. كما ركز الاحتلال خلال هذه الفترة سيطرته على مدينة القدس، وجُرِّف حي المغاربة الملاصق لحائط البراق وطُرد سكانه، وأُعيد بناء الحي اليهودي في البلدة القديمة، في خطوة لتكريس الاحتلال في الجزء الشرقي من المدينة المقدسة التي من المفترض أن تكون عاصمة الدولة الفلسطينية. كما تحولت مناطق عديدة خاضعة لسيطرة السلطة الفلسطينية إلى كانتونات منفصلة، معزولة بعضها عن بعض بالكتل الاستيطانية وبالشوارع الالتفافية، وصدرت التشريعات لضم مناطق قليلة الكثافة السكانية، وتصاعدت حملات هدم المنازل، وتشريد الفلسطينيين في المناطق المستهدفة بالضم، لإلغاء أي إمكانية لإقامة دولة فلسطينية قادرة على الحياة. ولم يبق للفلسطينيين سوى 15% فقط من مساحة فلسطين التاريخية. كما سيطر الاحتلال على أهم الموارد الاقتصادية الفلسطينية من مياه ونفط وغاز طبيعي، وأصبحت كلها خاضعة لهيمنة الاحتلال وسيطرته.

آيديولوجية إسرائيل قامت على مبدأ طرد السكان العرب وإحلال اليهود مكانهم من خلال الهجرة اليهودية من الخارج. مشكلة الصراع تكمن في العقل الإسرائيلي "المبرمج" الذي لا يجد حلًا لعلاقته الصدامية مع الفلسطينين، وأصبح حلمه أن يصحو من النوم ويجد أن فلسطين التاريخية خالية من الفلسطينيين.

الفرصة الحقيقية الأخيرة لتجنب الصراع المأساوي بين إسرائيل والفلسطينيين قد دمرتها عملية اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين في عام 1995، وكان القاتل متطرّفاً إسرائيلياً يعارض اتفاقيات أوسلو، التي سعى بموجبها رابين إلى صفقة من نوع "الأرض مقابل السلام". كانت الصفقة لعنة على المتطرفين الإسرائيليين المؤمنين بعدم جواز التفاوض على السيادة اليهودية في الأرض المقدسة. وقد أدلى عدد من المسؤولين الإسرائيليين بتصريحات متكررة وما زالوا، يؤكدون خلالها أن فكرة وجود دولة فلسطينية مستقلة "عفا عليها الزمن"، وأن الحدود التي أقرتها اتفاقية أوسلو "لم تعد واقعية"، وتضر بالأمن الاستراتيجي لإسرائيل، وتثير مخاوف اليهود من تكرار الهولوكوست على أيدي الفلسطينيين. كما يطالبون الفلسطينيين والعرب بالاعتراف بـ"يهودية دولة إسرائيل"؛ لكونه "مطلبًا أساسيًا وجوهريًا لإسرائيل". علاوة على أن نتنياهو صرح بأن "الشعب اليهودي له حقّ حصري وغير قابل للتصرف في جميع أنحاء أرض إسرائيل من النهر حتى البحر".

إسرائيل تحاول الآن تصفية القضية الفلسطينية تمامًا عن طريق طرد سكان غزة إلى سيناء المصرية، كخطوة أولى قبل تهجير الفلسطينيين من الضفة الغربية وإسرائيل. تلك هي أهداف إسرائيل من حربها على غزة.

ويبقى مشروعًا التساؤل عن البديل إذا فشلت إسرائيل لأي سبب في غزة.

وسائل الإعلام الإسرائيلية والغربية تذكر أن عشرات الآلاف من مقاتلي "حماس" يختبئون في الأنفاق، وقد تحولت غزة ودروبها وأزقتها إلى متاهة مُميتة لجنود إسرائيل، ويقوم مقاتلو حماس بنصب الكمائن للجنود الإسرائيليين، مستفيدين من خبرتهم بالميدان والأرض التي يعرفونها كما لا يعرفها الجيش الإسرائيلي، وهو ما يعرقل جهود الجيش في تنفيذ أهدافه، فوزير الحرب الصهيوني صرح بأنه: "لا بد من هزيمة حماس، وإلا فلن توجد إسرائيل في الموقع الجغرافي الحالي".

قامت إسرائيل بالحرب، وبالحرب استمرت، وبالحرب توسعت وازدادت قوتها، ولولا الحرب لم تكن إسرائيل. فإذا كانت الحرب أساس وجودها، فهل يمكن أن تكون الحرب الحالية نهاية أوهامها وبداية انهيارها؟