بين الحق والباطل

 

د. إبراهيم بن سالم السيابي

للحق مدلولات في اللغة العربية منها: الصواب والعدل في الأقوال والأفعال والمواقف،  أما الباطل فهو نقيض الحق، ولا شك أن الصراع بين الشعب الفلسطيني وما يُعرف بدولة  إسرائيل هو صراع بين الحق والباطل، ولو كره المجرمون؛ ذلك أن الصراع بين الفلسطينين والصهاينة ليس صراعًا سياسيًا أسوة بالصراعات التي عرفها التاريخ، أو صراع قوى بين قوة قاهرة فرضت إرادتها على قوة أخرى أقل منها في القوة أو الإرادة، ولكنه صراع مختلف، وبالتالي؛ ما وجه الاختلاف في هذا الصراع الذي استمر وما يزال قرابة 75 عامًا؟ ولماذا هذه المذابح ومحاولة الإبادة والقمع وأشد أنواع التنكيل أمام أنظار العالم الذي يدعي الحرية والعدالة؟ ولماذا هذا الصراع بين الحق الأبلج والباطل؟

ثمّة تساؤلات تجعلنا نستعرض أوجه الاختلاف بين هذا الصراع والصراعات الأخرى السياسية، وما يميز هذا الصراع عن غيره من الصراعات.

أولًا: أن الصراع بين الشعب الفلسطيني والكيان الصهيوني، هو صراع وجود، ومَنْ يقول غير ذلك فقد جانبه الصواب، ومَنْ يفكر غير ذلك يهرب من الحقيقة، فصراع الاحتلال ينتهي بمجرد دولة أو قوى سياسية تنهي سيطرتها على أرض أو دولة  بمعاهدة أو اتفاقيات، أو تخرج  مهزومة مذلولة كما حدث في مرات كثيره في التاريخ، ولكن الصراع هنا مختلف، فأساسه مجموعة مهاجرين أو مستوطنين أو غاصبين "باختلاف مسمياتهم"، ولكنهم جاءوا من مختلف البلدان شبه مطرودين ومنوبوذين من أوطانهم الأصلية، إن كانت لهم أوطان أصلًا، ليقيموا دولة بمساعدة قوى أخرى كانت لها الغلبة في يوم من الأيام على أرض ليست أرضهم، فاحتلوا هذه الأرض، وبالتالي فإن إنهاء هذا الاحتلال معناه إنهاء وجودهم ووجود دولتهم.

وفي المقابل؛ فإن الطرف الآخر الذين هم أصحاب الأرض الأصليين فإن استمرار هذا الاحتلال وتوسعه في ضم المزيد من الأراضي يمثل تهديدًا لما تبقى لهم من وجود، فالأصل في الصراع أنه ليس صراعًا سياسيًا كما عرف في التاريخ، وإنما صراع بقاء ووجود، بدليل مماطلة إسرائيل في إقامة دولة فلسطينية على ما تبقى لهم من اراضٍ، التي احتلتها عام 1967م؛ لأنها تدرك ويدرك كل من يساند هذه الدولة المجرمة الغاصبة بأن إقامة أية دولة فلسطينية يعني منح صفة الدولة وكامل الحقوق المشروعة، وهذا يُعد تهديدًا حقيقيًا لوجودها، وأن أصحاب الحق عندما يتمكنون ويبنون دولة حقيقية لها كيان كامل  لن يرضوا إلا باستعادة باقي أرضهم ووطنهم السليب.

ثانيًا: إن الصراع بين الفلسطينين والكيان الصهيوني هو صراع عقيدة، وليس صراعًا سياسيًا فقط، ينتهي كما هو الحال في مثل هذه الصراعات بمعاهدة أو اتفاق، حتى إن كان هناك من يحاول أن يسوق غير ذلك، فإنه يبيع الوهم وبضاعة كاسدة، وما محاولات ترويج ما يسمى  بالدين الإيراهيمي؛ ليكون بديلًا عن الدين الإسلامي الحنيف، إلّا دليل على هذه المحاولات البائسة حيث وُئدت في مهدها، فالعقيدة الإسلامية واضحة كما جاءت في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وهي ثابتة وراسخة رسوخ الجبال في قلوب المسلمين، وبالتالي فإن هذا الصراع هو صراع عقيدة وليس صراعًا سياسيًا مثل بقية الصراعات.

ثالثًا: إن الصراع الفلسطيني والكيان الصهيوني هو صراع قيم وثقافة وحضارات ومقدسات، ويدرك هذا المعنى من يقرأ التأريخ الحقيقي لهذا الصراع، فهو ليس احتلال دولة بمعنى مصادرة إرادة الشعب، والتحكم في سيادتها، ونهب ما تستطيع من خيراتها، أو لأسباب أخرى تراها الدولة المستعمرة، ولكن الصراع هنا مختلف، وإن كان في المضمون هو استعمار واحتلال وقد كملت أركان الصراع، إضافة إلى صراع العقيدة كما ذكرنا بأنه صراع مقدسات كذلك، فبينما المحتل مثلا يدنس المسجد الأقصى، ويريد أن يهدمه لاعتقاده بأن هذا المسجد بُني على أنقاض رمز ديني وهو هيكل سليمان، ويرى اصحاب الأرض أن هذا المكان المقدس هو من تسيل في أروقته  دماء الشهداء من أبناء الشعب الفلسطيني ومن أجله، دون أن يرتد لهم طرف او يهتز لهم رمش عين وهم مستعدون بالتضحية بأرواحهم جميعا حتى يبقى هذا الرمز الخالد. إن هذا يمثل جزءًا من الصراع، أما الجزء الآخر يتعلق بالقيم والثقافة، وكل موروث، إذ إن الفلسطيني ابن الأرض ليس كحال المهاجر أو المغتصب حتى إن خضع بعض منهم للظروف خارج إرادتهم أو لأسباب مختلفة يصعب حصرها.

رابعًا: الصراع الفلسطيني الصهيوني هو صراع مختل التوازن أو القوى، فهو صراع القوة والإمكانيات والدعم غير المحدود  من طرف واحد؛ حيث تدعم الطرف المحتل الغاشم قوى  تتحكم في العالم من جميع النواحي، سواء القوة العسكرية أو القوة الاقتصادية والسياسية، وهنا لن نذكر أسماء، إذ كشف طوفان الأقصى هذه الأسماء وعرت سوءاتهم، والحلقة الأضعف (ظاهريا) هنا في هذا الصراع  هو الطرف الفلسطيني، وهو الطرف المظلوم الذي يُنكل بأبنائه وتُهان مقدساته، ويعيش في أحلك الظروف من الحصار والقمع وهو إبن تلك الأرض المحتلة التي بارك الله حول اقصاها، وقد تخلى عنهم القريب  والبعيد، والشقيق والرفيق، فتحمل  وحده عبء المواجهة، متسلحا بإرادة من حديد وعزيمة تهد الجبال، وأثبت بالقول والفعل بأنه لم ولن يقبل،  فرض الأمر الواقع عليه وعلى وطنه السليب، وأنه شعب قد حسم امره وتوكل على خالقه فإما نصر او استشهاد.

خامسًا: الصراع الفلسطيني الصهيوني هو صراع الأمة كلها، وليس كعادة الصراعات تحدده القيادات السياسية في البلدان، هنا الامة كلها مهمومة بما يجري على هذه الارض المقدسة، وعليه فإن هذا البعد العربي والإسلامي لهذا الصراع هو ما يقلق ويقض مضاجع العدو واعوانه، ذلك ان الشعوب العربية والإسلامية بجانب الشعب الفلسطيني يرفصون رفضا قاطعا التفريط في قضية فلسطين عامة والأقصى خاصة ويرون ذلك التفريط خيانة لقضايا الأمة ومقدساتها. وعلى سبيل المثال؛ فإن "اتفاقية السلام" التي وقعت عام 1979م بين مصر وإسرائيل لم تُثنِ الشعب المصري عن شعوره المعادي لإسرائيل منذ ذلك التاريخ حتى هذه اللحظة، بالتوجهات السياسية هنا لم تستطع أن تكسر ذلك الحاجز الأزلي بين هذا الشعب  المصري العظيم وبين الذي أصبح بين عشية وضحاها شعبًا له دولة وكيان، وقسْ على ذلك الاتفاقيات والتفاهمات الأخرى، حتى تلك الموقعة بين بمنظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل بما يعرف بـ"اتفاق أوسلو"، فهذه الاتفاقية لم تجد القبول، ليس فقط لأنها غير مُنصفة للفلسطينين، ولكن لأنها  خالفت إرادة الشعب الفلسطيني نفسه وموقفه الحقيقي من الصراع، حتى وهو تحت الضغط، وكانت تُملى عليه الشروط، أو اختلف القادة  في ذلك الحين على تقدير الموقف الذي انكشف وفُضح الأمر بعد حين، بعد أن تملص الطرف الآخر من جل التزاماته، وأصبحت  هذه الاتفاقية حبرًا على ورق، وقسْ على ذلك الاتفاقيات الأخرى أو اتفاقيات التطبيع، فهذا الصراع هو صراع أمة باكملها وليس صراع إرادت سياسية.

وما يؤكد هذا السرد السابق هو سعي الكيان الصهيوني إلى تمرير ما يسمى بـ"صفقة القرن" وهي في الحقيقة ستكون صفعة القرن؛ لأنها ستُنهي القضية الفلسطينية للأبد، وتقضي على الحلم الفلسطيني بإقامة دولتهم المستقلة، وعودة اللاجئين الفلسطينين، وضياع القدس إلى الأبد، هذه الصفقة ترتبط بما أشرنا إليه من صراع الوجود، وهو حلم الطرف الأول الصهيوني بأنهاء الوجود الفلسطيني على أرضهم، وما يجري الآن ليس ببعيد عن ذلك الصراع الوجودي، فآلة الحرب التي تدور في غزة لأكثر من 80 يومًا تحرق الأخضر واليابس، وتدمر الحجر   والشجر وكامل البنية التحتية لقطاع غزة من مدارس، ومستشفيات، وطرق، ومبانٍ وغيرها، وتقتل الأبرياء جلهم من الأطفال والنساء دون ذنب إلّا أن يقولوا ربنا الله.. هذه آلة الحرب الإجرامية تسعى في المقام لتنفيذ مخططها القاضي بإنهاء الوجود الفلسطيني في القطاع، وتهجيرهم من قراهم ومدنهم بعد أن تسوي بها الأرض، وتُدمر كل معالم الحياة بعد الحصار ومنع الماء والطاقة والدواء، بل تمادت وجرفت أمام أنظار العالم حتى المستشفيات بمن فيها من أحياء وأموات وفق صمت فاضح للعالم الذي يدعي الحرية والديقراطية الزائفة.

أخيرًا.. انتصرت المقاومة الفلسطينية وانتصرت القضية الفلسطينية، وهذه الأفعال الشائنة لهذا الكيان الغاصب لم تعد تجدي نفعًا فقد أدركت شعوب العالم أجمع قضية الشعب الفلسطيني، وخرجت في كل مدنها تستنكر هذه الأعمال الوحشية المقرونة بالإجرام المزوج بالوحشية الزائدة المقرونة بالحقد الأعمى، وأثبت أهل فلسطين رجالًا ونساءً صلابة عودهم وصبرهم، لأنهم محتسبون موكلون أمرهم إلى الله، ومؤمنَن بقضيتهم العادلة ومتمسكون بحتمية إقامة دولتهم المستقلة على أرضهم، والحفاظ على مقدساتهم والأخبار التي تأتي من أرض المعارك تنبئ عن انتصارات يسجلها رجال المقاومة مع تكبد العدو الكثير من الخسائر في الأرواح والمعدات، ولحفظ ماء الوجه فإن وقف النار أصبح مطلبًا لا بُد منه لقادة الحرب (نتنياهو)  ومن المتوقع أن يُعلن قريبًا، وسوف  تفرض- بإذن الله- المقاومة كافة شروطها، خاصة تلك المتعلقة بالافراج عن الأسرى في السجون ووضع اللبنة الحقيقة لقيام دولة فلسطينية مستقلة معترف بها دوليًا وذات سيادة وعاصمتها القدس الشرقية.

في الختام.. اللهم إننا لا نملك إلا الدعاء، فانصرْ أهل فلسطين على عدوهم وعدو الامة كلها، وخفف عنهم مصابهم وبلغهم كل أمانيهم.. إنك قريب سميع الدعاء.

** خبير في الشؤون المالية

تعليق عبر الفيس بوك