"المرحلة التالية" تتجاهل التحولات السيكولوجية للشعوب

 

د. عبدالله باحجاج

يُتداول الآن مفهوم جديد يُشكِّل مرحلة جديدة من العدوان الصهيوني المستمر حتى الآن، وهو "المرحلة التالية"، وتعمل واشنطن مع حلفائها على بلورة هذا المفهوم في آجال زمنية سريعة، وكُل المؤشرات تضعنا أمام التسليم بحقبة المرحلة التالية التي لم تتبلور ماهيتها بصورة كاملة حتى الآن، رغم أنَّ انطلاقتها قد أصبحت واضحة الآن.

ويرى مايكل آيزنشتات مدير مركز برنامج الدراسات العسكرية والأمنية بمعهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، أن واشنطن تريد الانتقال للمرحلة التالية عاجلًا ربما في غضون أسابيع قليلة. فيما يرى المفكر والكاتب الفلسطيني عزمي بشارة أنَّ حقبة اليوم التالي، ستبدأ من نهاية يناير أو منتصف فبراير 2024، وجولة لويد أوستن وزير الدفاع الأمريكي للمنطقة الأخيرة تدخل في صلب التحضير لهذه المرحلة الخطيرة.

وطبيعة المرحلة التالية، تعني الانتقال من تكثيف القصف وشموليته على غزة الى الاستهداف النوعي لقيادات حماس وبنيتها التحتية العسكرية، وقد قدمت وزارة الخارجية الأمريكية للصهاينة نسخة من عشرين صفحة عن تفاصيلها، فيما تُثار معلومات أن دولة إقليمية تتدخل مع باريس لتحسين خطة المرحلة الانتقالية، وأهم ما تقترحه نفي قادة حماس العسكريين، خاصة يحيى السنوار ومحمد الضيف إلى الجزائر كبديل عن التصفية الجسدية. وكل التفكير الأمريكي ينصب على ضمان نجاح المرحلة التالية دون التعمق في انعكاسات العدوان في نسختيه "الشاملة المستمرة" و"النوعية المقبلة"، على سيكولوجيات الشعوب الإسلامية والعربية. وإذا كانت واشنطن تعتقد أنها بسهولة سوف تحقق النجاح لأجندات هذه المرحلة، فمن المؤكد أنه يغيب عنها مسألتان أساسيتان هما:

** فشل القصف الوحشي والشامل لغزة (لقرابة 3 أشهر)، والذي لم تسلم منه حتى المساجد والمدارس، معززة باستهدافات برية كمية ونوعية وبمشاركة حلف الناتو المباشرة وغير المباشرة، وما ترتب على ذلك من مذابح بشرية، وكذلك فشلها في القضاء، بل حتى شل قدرة المقاومة على الفعل، فهل ستنجح في المرحلة التالية من خلال الاستهدافات النوعية؟

** تجاهل البعد الاجتماعي والشعبي؛ سواءً داخل فلسطين المحتلة أو اسلاميًا وعربيًا؛ بل عالميًا، فهناك سيكولوجيات غاضبة ضد واشنطن، ستُنتج ردود أفعال مختلفة، وما نخشاه فعلًا، أن تتشكل في كيانات عنف دائمة.

تلك السيكولوجيات أصبحت متحولة بالعلامة المئوية الكاملة، وسنأخذ مثالًا حيًا وحديثًا من المُكوِّن الديموغرافي الأمريكي، فقد أظهر استطلاع لمركز دراسات جامعة هارفارد أن حوالي 67% من الشباب الأمريكي ما بين 18- 24 عامًا يرون أن اليهود ظالمون، ونصفهم يرى أن الحل في إنهاء إسرائيل ومنحها للفلسطينيين، فكيف بمن له ثأر على الصهاينة في الأرض والعرض والدم والدين. ومع صعوبة تحديث حصيلة الضحايا مع تزايدهم بالمئات يوميًا، قدّرت إحصائية قبل 3 أيام قرابة 20 ألف شهيدٍ ونحو 55 ألف جريح، منهم 70% من الأطفال والنساء غير المفقودين، والآلاف من الممتلكات الخاصة من سكنية ودينية وصحية تمت تسويتها بمن فيها من بشر بالأرض، فكيف ستُعالِج المرحلة التالية مذابح وسيكولوجيات مرحلة الإبادات والتدمير الشامل؟

كل هذه الصور أحدثت حالة كراهية عالمية ضد الصهاينة والأمريكان والإنجليز، ولن نجد في الخليج مثلًا رجلًا كبيرًا ولا شابًا أو حتى طفل، إلّا وقد أصبح يكرههم، وللأسف مثل هذه الأحداث غائبة عن سياساتهم، ولو أُجري استفتاء حول الوجود الغربي في الخليج، لكانت النسبة المئوية الكاملة ضدهم! ولو خُيِّرت هذه الدول، فلن تختار شرقية ولا غربية، ولا صهيونية ولا مُتصهينة، وإنما ذاتية متعاونة مع قوى تحترم خصوصياتها ورغبة شعوبها في الاستفادة من مواردها وثرواتها كاملة، وهنا قد تدخل بكين وموسكو.

ونلاحظ مجددًا غباء التفكير الأمريكي الغربي للمرحلة التالية، وحتى لمرحلة ما بعد العدوان، فكل تركيزهم منصب على القضاء على حركات المقاومة وبنيتها في غزة، فهل يدركون ماذا يعني ذلك؟ يعني أنها ستكون معركة الوجود، إما الموت أو الحياة، وهذا يدفع بالمقاومة إلى استعمال كامل قوتها، من منظور إما أن تُنهي العدو أو يُنهِيها؛ لأنها تعلم الآن أنه ليس أمامها من خيارٍ ثالث، ومن يدفع به إلى الثنائية الحصرية، فلن يكون مُستسلمًا أو ناعمًا في هذه المرحلة الوجودية؛ بل شرسًا حتى آخر قطرة من دمه، إما الموت بشرف الاستشهاد الذي وراؤه تسجيل الإنجاز التاريخي للأجيال، أو النصر مهما كان ثمنه. ومن المؤكد أن هذا الخيار مطروح لدى حركة "حماس" قبل "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر الماضي؛ لذلك، فمن البديهيات أنها قد استعدت له بخططٍ لمواجهته، وسيفشلون كما فشلوا في عدوانهم الوحشي الشامل.

وإذا ما رجح خيار معركة "الوجود" على كل الخيارات الأخرى، كالخيار السلمي، فإننا نرى سيناريو انفجار المنطقة من خلال ما يسمى بـ"المرحلة التالية"؛ إذ إن دول "الناتو" وعلى رأسهم واشنطن، ستسخِّر كل إمكانياتها العسكرية والاستخبارية والمالية لمعركة المرحلة التالية، وحتى الآن لم تكشف المقاومة في غزة عن كل إمكانياتها وقدراتها، ونتوقعها أن تقلب تاريخ الاحتلال عاليه سافله من خلال أنفاقها المجهولة، وما كشف عنها ليس سوى النذر اليسير، وكذلك عن قدراتها العسكرية التي تحتفظ بها لمعركة الوجود.

ومثلما فجّر العدوان غضب جماعة أنصار الله في اليمن، وهدَّدوا الملاحة البحرية العالمية في البحر الأحمر، وكبَّدوا الشركات خسائر ضخمة، فيقينًا أن معركة الوجود المخطط لها بغباء سياسي، ستفجِّر المنطقة من جغرافيات مُتعددة ملاصقة لفلسطين المحتلة وبعيدة عنها، وربما هذا ما دفع بوزير خارجية فرنسا إلى زيارة لبنان ضمن جولته في المنطقة لضمان حيادية هذه الجبهة أثناء المرحلة التالية؛ إذ ليس هناك ضمانات مهما قدمت لها؛ فالفاعلون كُثُر ومتعددون بمن فيهم حركة حماس، لأنها حركة مقاومة أساسية وليست بالغباء حتى يتركوا هذه الجبهة دون حسابات لمعركة الوجود.

وحتى لو تأملنا في خيار نجاح المرحلة التالية- لا قدَّر الله- فإن التفكير الأمريكي الغربي ينسى أن هناك الآلاف من الأطفال باتوا أيتامًا بعد مذابح إبادة عائلات بأكملها، وأن كل فلسطين- وغزة خاصة- أصبحت تعُج بقضايا الثأر العائلية والأسرية، مما يمنح هذا البعد العاطفي الجديد لقضية فلسطين المحتلة حتمية النصر من النهر إلى البحر، ولمرحلة ما بعد العدوان حقبة الصراع الشامل، ولن يتمكنوا من وضع نهاية مستقبل المقاومة، إذ إنها لن تنتهي، وستولد مقاومة أكثر قوة ورغبة وإصرارًا من رحم اليُتم والتدمير والعدوان الوحشي. وفي كلا الحالتين- الفشل أو النجاح- فإن هناك مشروعَ مقاومة داخل غزة يتأسس من مشاعر وعواطف المذابح والإبادات الجماعية.

كما إن هناك ثقافة عابرة للحدود يؤسسها نجاح الجماعات المسلحة في تركيع دول عالمية، مثل جماعة طالبان التي تمكنت من طرد الامريكان، وكذلك طرد الجماعات المسلحة العراقية للقوات الأمريكية من العراق، والآن تُعزز حركة حماس هذه الثقافة، وإذا ما أخذنا جماعة أنصار الله في اليمن وقدرتها على ضرب مواقع إسرائيلية حساسة في فلسطين المحتلة رغم بعد المسافة، وتحديها العالم عبر استهدافها السفن الصهيونية وتلك المتجهة للكيان الصهيوني في البحر الأحمر، وما ترتب على ذلك من تشكيل تحالف بحري عالمي لمواجهتها، فإنها تُشكِّل بذلك حالة إلهام لكل الجماعات في العالم، خاصة الآيديولوجية منها.

وتفكير "المرحلة التالية" وتخصيصها للقضاء على حماس، يُدلِّل لنا أن الغرب الأمريكي لن يحتكم لفكره الاستشرافي، وأنه سيستمر في تفكيره القائم على القوة والاستفراد بها؛ لذلك لن ينجحوا في القضاء على حماس، فهي حالة شعبية فلسطينية، تحولت بعد المذابح الى حالة شعبية إسلامية عربية عالمية مُتنامية في القناعات.. وفي إحقاق الحقوق الفلسطينية، ومُنتجة لصيرورات كونية ضد المصالح الأمريكية والبريطانية والغربية عمومًا، ولو احتكموا لهذا الفكر الاستشرافي، سيجدون فيه فرصة تاريخية لحل الدولتين؛ فالحلول المصيرية تُولد من هكذا أرحام. لكن، هذا لن يحدث؛ لأن الإرادة الغربية زرعت الكيان الصهيوني من أجل بقاء المنطقة مُتوترة وفي حالة صراع مُستدام حتى تُسيطرعلى المنطقة بالقوة، وغاب عنها أن غزة تقود الآن مسيرة انقلاب تاريخية على مصالحها في المنطقة، وكما قال البعض إن هناك مُتغيّرًا جيوسياسيًا سيحدث في المنطقة بسبب عُقم التفكير السياسي الأمريكي الغربي.