عُمان في قصائدهم (1)

وطن جمانة الطراونة

 

ناصر أبوعون

هنا في عُمان، وفي ليالي ديسمبر الصافية التي تخاصمها الغيوم، ومن تحت سفوح الجبال الراسيات التي تُناجي النجوم المختبئة خلف ستائر العتمة الشفيفة، ومن وراء الهضاب الناعسات على كتف الحنين، ومن قلب لُجّة الحُلكة التي تفرش سوادها الملكيّ على حصيرة المروج الواسعة يهبط من السماء مهرجان الألوان الإلهيّة وتسَّاقط "شهب التوأميات" من ارتفاع 70 كيلومترًا، والمنبعثة من حطام الكويكب "فايثون"، لتدخل سنويًا إلى الغلاف الجويّ لسلطنة عُمان ما بين 7 إلى 17 ديسمبر وتتراقص أنوارها مُشعشعة بالضوء المُفضّض ما بين الساعة 1:00 إلى 1:59، ثم تُمسك بالفرشاة لترسمُ بزخّاتها المتتابعة أقواسًا وخيوطا متقطعة من النور على سبورة السماء السوداء بالأحمر والأخضر والأزرق، ثم تدنو من الأرض بسرعة قصوى يصل مداها إلى 35 كيلومترًا في الثانية.

وإذا سألتني ما علاقة هذه اللوحة الفنية التي رسمتها يد الله بقصائد الشاعرة جُمانة الطراونة؟ الإجابة ببساطة أنّ هذه الفتاة الأردنيّة وقعت في عشقِ عُمان قبل أنيخطف قلبها الشاعر عبد الرزاق الربيعيّ! فالطبيعة هنا (بشرٌ وحجرٌ) تُبدِّل المواجيد، وتغسل الروح بماء الرضا، وثلج المسامحة، وبَرَدِ العفو، وتُعَمِّد الأناسي في بئر المحبة، وتسمو فوق الخلافات، وعندما يفرك الفجرُ عيونَ الناس تستنشقُ رئاتهم أصالةً، وتزفر أنوفهم سماحةً، وتشرئب أرواحهم وداعةً.

لقد تابعت الشاعرة الأردنية جمانة الطراونة في أكثر من قصيدة عن عُمان فشاهدتها ترسم بالكلمات لوحة عشق وطنيٍّ تضج بألوان العرفان والولاء، وتوقّع أشطرها الشعرية بأقلام الوفاء، وتنسج صورها الشعرية بأنوال العطاء التي لا تتوقف، وتشد أوتار قيثارتها على موازين الخليل التي تتخلّق تفاعيل جديدة من وهدأة سواكنها وأمواج متحركاتها المتدفقة من أفلاج النغم، وتسابيح الإيقاع.

ومن بديع ما قرأته للطراونة قولها في معشوقتها عُمان ووطنها الثاني: ["وعلى ضريح أبي "الخليلِ" تجرّأت//كفّي لتكتبَ بعد إذن بنانه"(لِـ(أمان)أن تزهو بعين(عُ)ـمانِها//فخراً كما يزهو بهمز(أ)مانهِ""وعُمانُ طه جئتُ شاعرةً على//ما يشتهيهِ الشّعرُ من (حسّانِهِ)].

ومن الإجحاف القول بإنّ "الضرورة الشعرية" ألجأت الشاعرة الطراونة إلى نسج أبياتها على نغمة شاذة من "بحر الكامل"؛ وذلك لأننا نجوِّز للشاعر ما لا يجوز لغيره من الجرأة في تجريب ما يشاء من إيقاعات نغميةٍ تتساوق والمعنى على نحو ما جاءت به الشاعرة في هذه الأبيات من وزن "مُتَـفاعِلُنْ""مُسْتَفْعِلُنْ""مَفاعِلُنْ"؛ حيث تبدو العروضُ الأولى صحيحةٌ "مُتَفاعِلُنْ"،ودخل عليها "وقصُ الثاني" فأصبحت "مَفاعِلُنْ" بقبحٍ، بينما لحق إضمارُ الثاني في الجزءِ الثاني "مُسْتَفْعِلُنْ" بِحُسْنٍ.

وفي مضمار آخر تبتكر الشاعرة جمانة الطراونة رؤى إيقاعية جديدة مشتقة من بحور الخليل التي تجاوز عددها 222 بحرًا وليست خمسة عشر في اعتقاد الأعم الأغلب من الباحثين الأصوليين الجامدين مضافًا إليها "بحر الخبب" الذي اكتشفه "الأخفش" تلميذ الفراهيدي النجيب. ومن بديع نظمها قولها تحيةً لمدينة صلالة في خريفها السنويّ:["تعدو بصدرِكَ للقريضِ خيولُ//وتخونُكَ الكلماتُ حينَ تقولُ""هذا هو الشجنُ الخفيُّ لفكرةٍ//عذراءَ لكنّ الهواجسَ غولُ""ماذا إذا كان المقامُ "صلالةً"// وعُمانُ عنّي السائلُ المسؤولُ""فإذا بأشجارِ الكلامِ تقزّمَتْ//جداً وأشجارِ السكوتِ تطولُ""وتطولُ حتى تلتقي أغصانُها//بالشمسِ ثمّ مَعَ النجومِ تصولُ""إيهٍ "صلالة"كلُّ شاعرةٍ رأتْ//أنْ لا مجيءَ..إلى يديكِ تؤولُ""وكأنّكِ المأوى الوحيدُ وكلُّ مَنْ//خرجوا سيرجعُهُمْ إليكِ دخولُ""يا بسمةَ الدنيا الأرقَّ عُذوبةً//كم قتّلتني ذي الثنايا اللولُ"].

ويبقى القول بأنّ عُمان قائدًا وشعبًا تُمثل في وجدان الشاعرة الأردنية جمانة الطراونة علامة فارقة في مسيرتها الشعرية، بل نقطة فاصلة على طريق تحولاتها الإبداعية والاجتماعية من غير مزايدة أو مبالغة، قادتها إلى البحث عن مناطق جديدة آسرة، ومساحات شاسعة من مروج البلاغة، ومناديس زاخرة بكنوز مطمورة من الصور والتراكيب والإيقاعات التي تتكشّف للنقّاد وعُشاق الشعر يومًا بعد آخر في منتوجها الإبداعي.