امرأة بألف رجل!

 

د. محمد بن عوض المشيخي

في المحن والأزمات الطاحنة تظهر في الأفق معادن الناس وأصلهم، بل وثقافتهم والقيم والمبادئ التي غرست في عقولهم ويحملونها منذ نعومة أظافرهم من جيل إلى جيل. إنها التنشئة والتربية الصالحة القائمة على التضحية والإيثار من أجل الاخرين. وبالفعل تنتشر بين أفراد أمتنا الخالدة الكثير من الخصال الحميدة والمواقف النبيلة تتجلى وتتضح معالمها عند المصائب والحروب.

إن الدافع لكتابة هذا المقال هو شجاعة وشموخ امراة عربية من دوحة الخير، التي سجلت من قلب غزة الصامدة كلمات تهتز لها الجبال وتزلزل القلاع وتخترق القلوب وتحرك الإرادات وتوقظ النفوس المتخاذلة من المحيط إلى الخليج في الزمن العربي الرديء.

وبهذه الرسائل المعبرة عن التضامن الصادق مع المقاومين؛ بدأت وزيرة الدولة للتعاون الدولي في دولة قطر قائلة بلا تردد ولا مجاملة ولا خجل: "وأيم الله يا أهل غزة، لقد أحييتم الأموات، وأيقظتم إنسانية العالم بعد سبات. قبلكم كانت كل الكلمات جوفاء، وكل الحكايا مكررة، وكل معاركنا اليومية تافهة، وكل الخطابات والبيانات لا معنى لها... ثم جاءت غزة لتعيد ترتيب أولويات هذا العالم، ولا أبالغ إذا قلت: إنكم اليوم تعيدون لنا جميعا إنسانيتنا التي سلبت منا أو ربما نسيناها" انتهى الاقتباس.

كم هي عظيمة هذه الوزيرة القطرية التي تركت مكتبها الأنيق في الدوحة، وذهبت إلى الأرض المحروقة من الصهاينة لتخفيف الآلام والجروح وجبر الخواطر ومساندة الأشقاء في قطاع غزة، حاملة معها قوافل المساعدات الإنسانية من أدوية وطعام ووقود للمستشفيات في شمال القطاع المنكوب، وذلك ضمن اتفاقية الهدنة وقبل ذلك كله رسائل الأمل والتضامن لتذكير الصامدين هناك بأنكم لستم وحدكم، بل هناك أمة إسلامية وشعوب عربية واقفة خلفكم وتتمنى الوصول لنجدتكم والاشتراك في ملحمة "طوفان الأقصى" معكم إذا سمحت الظروف بذلك. إنها بحق امرأة بالف رجل، فلولوة الخاطر تعتبر أول مسوؤل عربي يشد الرحال شطر غزة المدمرة بالقصف البربري للحكومة الإسرائيلية المعربدة بدون أدنى مسؤولية أخلاقية أو إنسانية. هذه هي أمة المجد والمفاخر التي أنجبت (لولوة) التي أزعم لو عندنا ألف امراة مثلها لكنا في مقدمة أمم الأرض قاطبة.

لقد أدركت القيادة القطرية مسؤولياتها التاريخية تجاه قضية العرب الأولى (فلسطين) والمسجد الأقصى؛ فلم تكن لولوة الخاطر المسؤول الوحيد في أرض الرباط، بل نجحت هذه القيادة الحكيمة بتأمين هدنة إنسانية ترتب عليها وصول المواد الغذائية والوقود إلى شمال ووسط غزة وكذلك إطلاق سراح النساء والأطفال من السجون الإسرائيلية مقابل إطلاق خمسين امراة وطفلا من المحتجزين الإسرائيليين لدى كتائب الشهيد عز الدين القسام. وأهم من ذلك كله قيام دولة قطر بتعمير قطاع غزة طوال الحروب السابقة، فقد استهدفت الطائرات الإسرائيلية قبل أسابيع مقر لجنة إعادة إعمارغزة.   

لا شك أن أجمل هدية قدمتها قطر للأمة العربية هي قناة الجزيرة بشبكاتها المتعددة، هذا المنبر الصادق الذي أصبح بمرور الأيام الناطق باسم الشارع العربي بلا منازع وخاصة في قضايا المواطن العادي، فعندما تبدأ الحروب في أي مكان في العالم -خاصة في فلسطين المحتلة- يتسمر الجميع أمام شاشات الجزيرة التي تعمل باحترافية ومهنية عالية، متجاوزة بذلك كل القنوات العربية والعالمية على حد سواء. فكان المستمع العربي يتجه لإذاعة "هنا لندن" قبل ظهور الجزيرة في عقد التسعينيات من القرن الماضي، لكونها تتمتع بمصداقية أكثر من وسائل الإعلام العربية التي تفتقد إلى نقل الحقيقة وبالتالي كانت تخسر المستمعين بسبب تلميعها للأنظمة العربية في ذلك الوقت. أما اليوم في زمن السماوات المفتوحة، فيشعر البعض بالصدمة عندما يشاهد بعض القنوات العربية هدفها الأساسي التقليل من إنجازات حماس والجهاد الإسلامي، إذ أصبحت قنوات الكيان الصهيوني أكثر مصداقية وأقرب للواقع من الإعلام العربي الذي يجنح إلى محاربة ما يعرف بـ"الإسلام السياسي" الذي يشكل فوبيا وكابوسا لدى البعض، حتى ولو كان ذلك على حساب الحقيقة.   

لقد أثبتت الأحداث تعاضد العرب جميعا مع الأخوة في أرض الرباط؛ انطلاقا من كون قضية فلسطين لها مكانة خاصة في قلوب الجماهير العربية وخاصة العُمانيين، فهذا الشعب العريق يقف دائما ضد الظلم، فقد كنت أسألُ نفسي كثيرًا طوال سنوات تدريسي لمساقات ذات طبيعة سياسية وإعلامية في جامعة السلطان قابوس عن اهتمام هؤلاء الطلبة العُمانيين بقضية الأمة الأولى "القدس الشريف"، ومناقشة ذلك بإسهاب، على الرغم من صغر سنهم، وكذلك تراجع المد القومي العربي في العقود الأخيرة. وعلى الرغم من ذلك تابعنا خلال الأسابيع الماضية مواقف مشرفة ومعبرة بصدق عن السلطنة حكومة وشعبا تُكتب بماء من ذهب للتضامن مع الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة نحو إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية.

صحيح هناك من أدار ظهره عن غزة، وفضل بدلا من ذلك الاتجاه نحو لندن وواشنطن وباريس لعله يجد مبتغاه في عواصم صنع القرار العالمي، وفضل العيش بهدوء وسكينة بعيدا عن ضجيج أصوات المدافع ورشقات الصواريخ، وكأن قضية فلسطين ليست من ضمن اولويات هؤلاء القوم.

وفي الختام، يجب أن يدرك الجميع بأن التاريخ لا يرحم ولا أحد يستطيع أن يزيف الحقائق، فقادة إسرائيل يهدفون اليوم بالدرجة الأولى إلى تحقيق أمانيهم بإقامة دولة يهودية من الفرات إلى النيل، واجتثاث العرب من أراضيهم، فلا مخرج للأمة إلا بإعداد جيل شجاع يؤمن بمصير مشترك، أمثال لولوة الخاطر في كل وادٍ ومدينة من أرض العرب، وذلك لحمل راية الإسلام عالية أمام الأعداء المتربصين في الداخل والخارج.

 

* أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري