الروح المعنوية للشعوب.. ضمانة الاستقرار والنصر

 

د. عبدالله باحجاج

درس غزة للخليج

كسرت الروح المعنوية المُرتفعة والثابتة والمتصاعدة لأهل غزة الباسلة النظريات المُعاصرة التي تربط تحقيق الاستقرار وديمومته وقت السلم، والانتصار وقت الحرب على القوة الخشنة والتطورات التكنولوجية الفائقة التقدم، مثل الردع النووي والتفوق الصاروخي والتطور السيبراني والطائرات المُسيّرة التي تُخصِّص لها الدول الآن المليارات من الدولارات لتطوير تقنياتها، وذلك على حساب الأبعاد الاجتماعية التي تراجعت أولوياتها، وتُزاحِمها الأولويات العسكرية والمالية، غير أنَّ أحداث غزة أثبتت خطأ الاعتماد على هذه المسارات المُعاصرة بصورة مُطلقة، وأكدت أهمية تزامنها مع الحفاظ على الروح المعنوية الوطنية للشعوب، وأوضحت بجلاء أنه إذا خسرت الدول هذه الروح فقد فقدت كل شيء؛ سواء في وقت السلم أو الحرب.

كل من تابع العامل السيكولوجي (النفسي) للشعب الفلسطيني عامة، وغزة خاصة، يرى أنَّه كان حاسمًا في نصر المقاومة وهزيمة الصهاينة، رغم أنهم مُعززون بالقوى الغربية وعلى رأسها أمريكا وبريطانيا وفرنسا، ولو قارنَّا بين الروح المعنوية لأهل غزة مع نظيرتها للمحتلين الصهاينة، سنجد الفارق واضحًا بين المُنتِج للنصر لغزة والمُسرِع بالهزيمة للصهاينة؛ حيث كان المُكوِّن الآيديولوجي الصهيوني عاملاً ضاغطًا على استمرار العدوان، ومؤثرًا سلبيًا على الروح القتالية للنازيين الصهاينة، واتضح لنا ذلك من مسيرات الاحتجاجات التي وراؤها الرعب من تساقط صواريخ المجاهدين على مستوطناتهم، ومشاهد ضحاياهم بين قتيل وجريح وأسير.. إلخ.

بينما المشهد في الجانب الفلسطيني مختلف تمامًا، شكلًا وجوهرًا؛ حيث صمود 2.3 مليون نسمة، وبسالتهم والتفافهم القوي مع حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، فلم نسمع شخصًا واحدًا يتذمر من حماس، أو يُصرِّح بأنها جلبت لهم الموت الجماعي والتدمير والتهجير القسري، والصواريخ تهدم أسقف المستشفيات والمساجد والمنازل فوقهم، ورغم ذلك يزدادون إصرارًا ووحدةً وتماسكًا، فما الذي يدفع بالأمهات للتفاخر أمام أطفالهن الشهداء قبل دفنهم، ومشاهد جثثهم الممزقة تُجمع في أقمشة بيضاء، ويُعبِّر صوتهن في كل أنحاء العالم قائلات "لا عزاء على الشهداء.. لا تقلقوا، الأم الفلسطينية ولّادة". كيف يتحمل هذا الشعب القصف الجوي والبري والبحري والتجويع؟ وكيف بروح معنوية تقبع في سجون العدو أكثر من 44 عامًا دون أن تخنع أو تسلم نفسها لخدمة الأجندات الصهيونية؟!

ورأينا كيف تحولت عملية إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين إلى أفراح وطنية، رغم أن بعض الشهداء لا يزالون تحت الأنقاض، وأن جرحاهم يُصارعون الألم لعدم وجود الدواء أو مستشفى للعلاج أو منزل للإيواء؟ رأينا كيف يحمل الأطفال، ويحتفون بهم، وهم بذلك يصنعونهم كمشاريع قادة للمستقبل في سن مُبكرة.. يا لها من روح معنوية عالية وثابتة لهذا الشعب، ومن يملك شعبًا بهكذا روح، فلن يُهزم وسيُحترم، وسيعيش بكل مقومات العز والكرامة. بالتالي، هذه الروح تمثل السلاح الأهم في أي معركة، وهي التي تحدد آفاقها من حيث زمنها ونتائجها، وهذا العامل هو الذي أجبر الصهاينة على السعي لهدنة مع حركة مقاومة- وليست دولة- رغم أنهم مدعومون بقوى استعمارية عتيدة، ومدججون بأرقى أسلحتهم العالية التقنية.

انصياع الصهاينة بعد 46 يومًا من عدوانهم المُتواصل على غزة لقبول هدنة بشروط حماس هو انتصار لتلكم الروح المعنوية، وهذا النصر لن يكون حكرًا على أهل غزة، وإنما هو مفتوح لكل دولة لديها هذه الروح المعنوية، ولنا في نصر الجزائريين والأفغان والفيتناميين نماذج نستشهد بها، وما يظهر لنا من انتصارات أقل مما هو مُستتَر، ونذكر هنا على سبيل المثال، خوف لندن وواشنطن من تعميق وتوسيع كراهية الشعوب لها بعد أن وصلت إلى أعلى سقوفها كوقف تصدير النفط لها، ومغادرتها قواعدها العسكرية في المنطقة، وبالتالي ليست العبرة هنا بقوة السلاح وتقنياته أو عدد الجنود واستعداداتهم، وإنما بالروح المعنوية للشعوب.. إلخ.

والتساؤل الذي ينبغي أن يطرح هنا، كيف تحولت الروح المعنوية لكل أهل غزة إلى أفعال يحركها العقل والضمير دون تردد أو خوف والتضحية بأعز ما يملكه الإنسان في الحياة، وهم فلذات الأكباد؟ نجد دول الخليج العربي معنية أكثر من غيرها بالإجابة على التساؤل، وينبغي على مفكريها الاستراتيجيين– إن وُجِدوا– أن يحللوه بعمق، ويُسقطوا غزة كتجربة مليئة بالدروس والعبر، وأهمها هنا القضايا التالية:

  • لا يُمكن الاعتماد على الأجنبي لضمان أمنها واستقرارها، فقد عجز الناتو وبالذات واشنطن ولندن في حماية كيانها النازي المُسمّى "إسرائيل"، كما عجزت أسلحتها المتقدمة في الحماية وتحقيق النصر على حركة مقاومة، ولنا كذلك في تجربة الصواريخ المُسيّرة التي كانت تضرب عمق إحداها في ظل تفرج قوات الحماية الأجنبية، وكذلك تخليها عن الشاه وقت حاجته إليهم، وبالتالي نُثير هنا قضية تعزيز عدم الثقة في الأجنبي، مهما كان تاريخه مع دول الخليج، وحجم معاهداته، وليكن الكيان الصهيوني نموذجًا له.
  • القوة العسكرية والتطور التكنولوجي وحدهما ليسا من العوامل الحاسمة للرد أو تحقيق النصر أو استدامة الأمن والاستقرار فيها.
  • الضمانة والاستدامة في الروح المعنوية لشعوبها وجنودها.

وكل من يُحلل تلكم العناوين الكبيرة في ضوء تجربة غزة، سيخرج منها بنتيجة مفادها أن دول الخليج ينبغي عليها إعادة تقييم مفاهيمها الجديدة عن الأمن والدفاع والاقتصاد التي تؤسسها بعوامل مادية خالصة وعلى حساب العامل الاجتماعي أحيانًا، وكل من يتأمل في سياساتها المالية والاقتصادية والتشريعية لآخر ثلاث سنوات سيجد هذه الحقيقة واقعة، وبالتالي ثمة تهديد بتفكُّك الصناعة الاجتماعية عوضًا عن أن تعمل على إعادة تحديثها بما يستجيب مع حداثتها المعاصرة، وبالتالي تبعثر الولاء والانتماء في الجهازين العقلي والسيكولوجي لمكونها الديموغرافي.

ولو طرحنا على المجتمعات الخليجية تساؤلًا واحدًا حول مدى الرضا الاجتماعي عن السياسات والتشريعات والتحولات الجديدة، فماذا ستكون الإجابة؟ سنجد اليأس والإحباط والتذمر من نتائجها حتى الآن، وسنجد قضايا كبرى مؤثرة بنيويًا على كل المجتمعات بصورة متباينة مثل: الباحثين عن عمل، والضرائب والرسوم، والمرتبات الضعيفة، ومؤشرات لمستقبل اختفاء الطبقة المتوسطة، والمخدرات، وإطلاق الحريات الفردية، وإغراقها بديموغرافيات قديمة وجديدة تسحب المواطنة منها، وتهدد هويتها وثقافتها؛ بل أكبر من ذلك، تهديد المستقبل الوجودي لهذه الدول، مما يؤثر سلبًا على الروح المعنوية الوطنية.

لذلك.. لا بُد من إعادة هذه الروح وتقويتها عبر عملية تصحيحية ذكية، ولن يتأتى ذلك إلّا عبر عودة المفهوم الاجتماعي للدولة في الخليج، وبالذات دُولِهِ المركزية التي تأسست وتقوَّت على الثقل الديموغرافي، وإذا ما كان هناك إصرار في المسير نحو تأسيس القوة الجديدة النووية والتكنولوجية والفضائية على حساب قوتها الاجتماعية، فإنَّ التأسيس سيكون فوق أرضية غير صلبة، أي متحركة وغير مستقرة، واستدعاء القوة الاجتماعية عند الحاجة إليها لن يكون ممكنًا في أقل تقدير.. وله أعلاه نتركه للتخيل في ضوء ما تقدم.