د. يوسف بن حمد البلوشي
في علوم الاقتصاد، تمثل الإحصاءات ركيزة أساسية لرصد التقدم وفهم الظواهر المختلفة، ودعم مُتخذي القرار بما يحتاجونه من أدلة وبراهين علمية للاستناد عليها لفهم أنماط السلوك والقضايا الاقتصادية والاجتماعية وصياغة حلول لها، غير أنه ورغم أهميتها كسندٍ لاتخاذ قرارات مبنية على أسس علمية، من منطلق أن "الإحصاءات لا تكذب"، إلّا أنها كغيرها من أدوات يمكن تطويعها (أي الإحصاءات) لتلوين صور مختلفة!
هنا نؤكد على أهمية استقراء الإحصاءات بشكل شمولي يراعي الأبعاد المختلفة- الاقتصادية والاجتماعية والسياسية- والتي تتقاطع في كثير من الأحيان، وذلك لتجنب استخدام الإحصاءات لتقديم أنصاف الحقائق، ومن ثم اتخاذ أنصاف قرارات وذلك بغرض مُداهنة المتلقّي وعدم توضيح الصورة له بالدرجة الكافية، والهروب الى الأمام، وتأجيل علاج مُشكلات حسّاسة في الاقتصاد والتعليم وغيرها من جوانب. ولا شك أن وسائل الإعلام وجهات مختلفة تسهم بدور مؤثر في ذلك.
وأيًّا ما كان الأمر، نود التأكيد على أهمية قراءة الإحصاءات الوطنية المختلفة بشكل مُتجرِّد لتعكس الواقع الحقيقي ولتُساند القرارات الوطنية المناسبة؛ فالتركيز على مؤشرات ودلالات إيجابية تعكسها مؤشرات الاقتصاد الكلي في كافة الحسابات الاقتصادية الكلية (ميزان المدفوعات، الحسابات القومية والمالية العامة، والنقود والبنوك)، والتي استحقت إشادات محلية ودولية، وأدت إلى تحسن التصنيف الائتماني للدولة.
لكن في المقابل، يجب أن نصارح أنفسنا بأنها جاءت مدفوعة بشكل رئيسي بأسعار النفط التي صعدت وتصعد معها كافة المؤشرات الأخرى، وبانخفاضها تنخفض كافة المؤشرات، وذلك لعدم بناء قواعد وأسس مُستدامة لخلق الوظائف وتعزيز الصادرات والحد من التدفقات المالية الأجنبية للخارج.
ففي قراءة متآنية لمصادر النمو والتحسن الملموس في المؤشرات المختلفة، فإن مرده بشكل كبير نسبيًا الى زيادة أسعار النفط والغاز، والتي حققت قفزات كبيرة ومستمرة خلال السنوات الأخيرة، وكذلك الكميات المُنتَجة من النفط والغاز، والتي تُمثل انعكاسًا لعوامل خارجية لا نتحكم فيها أو نؤثر عليها. وتشير الإحصاءات الى أن مصدر النمو الاقتصادي في العام 2022 والذي بلغ 4.3%، يعود بأكثر من 77% منه الى نمو القطاعات الهيدروكبرونية والتي بدونها لم تكن لتتحقق القفزة في القطاعات غير النفطية. ولا يعني هذا التقليل من الجهود الكبيرة المبذولة لتحسين وضع المالية العامة وتنويع الاقتصاد، وإنما نشير لذلك من أجل ضرورة حشد الهمم لبناء اقتصاد أكثر متانة، وتجنب المطبات التقليدية وأهمية تحريك السكون السائد في العديد من القطاعات الاقتصادية. فلا بُد من إيجاد حلول وبدائل لفك العلاقة السببية المباشرة طويلة الأجل بين أسعار النفط والنمو الاقتصادي في سلطنة عمان والتي بدأت منذ سبعينيات القرن الماضي، وما زالت مستمرة وبقوة؛ إذ لا يُمكن وضع أي سيناريو لنموٍ اقتصادي دون سيناريو لسعر النفط. وقد انعكست حالات عدم اليقين تجاه أسعار النفط على عدم اليقين أيضًا بمستقبل النمو الاقتصادي في عُمان؛ حيث يؤخذ علينا أن النمو الحاصل خلال الحقبة الماضية لم يرتبط بنمو عوامل الإنتاج، بل إنه أيضًا يُعاني من حلقة مفقودة تربط النمو المُحقق مع دور فاعل للقطاع الخاص، وقد ظلت الحكومة تؤدي الدور الرئيسي في مجال الإنتاج، واعتمد الاستهلاك على الإنفاق الحكومي المُموَّل هو الآخر من الإيرادات النفطية.
وعلى صعيد آخر، وعلى الرغم من تحسُّن أوضاع الاقتصاد الكلي، إلّا أن هذا التحسُّن لم يحقق تحسُّنًا مُماثلًا يتلمس نتائجه الأفراد والشركات؛ ففي السياق الاجتماعي يجب عدم إغفال مؤشرات اقتصاد الأفراد والأسر والذين يمثلون قطب الرحى وغاية التنمية وأداتها، وهؤلاء تأثروا بمؤشرات أخرى كتلك المرتبطة بقلة الوظائف وجودتها، ومحدودية الدخول، وضعف القوة الشرائية، وعدم القدرة على الادخار، وصعوبة تلبية الاحتياجات الأساسية اليومية؛ بما انعكس على تآكل الطبقة الوسطى وتزايد ضغوط الحياة في المجتمع، ومن ثم زادت مؤشرات الطلاق والجريمة وغيرها. وتتعاظم هذه المشكلة في حالة انعدام أو ضعف كيانات المجتمع المدني، التي تسهم بدور مُهم في رصد هذه المؤشرات الاجتماعية وأنماط السلوك ووضع المجتمع.
وعلى الرغم من صدور قانون الحماية الاجتماعية المُهم، إلّا أنه قد لا يكون كافيًا للانتقال بالعديد من الأسر من تحت "خط المعيشة اللائق"؛ الأمر الذي يتطلب إجراءات إضافية تستهدفُ بشكل فاعل هذه الشريحة من المجتمع.
وعلى الجانب الآخر، فإنَّ الأمر نفسه ينطبق على اقتصاد الشركات والتي قد تكون هي الأخرى تعاني من مؤشرات غير إيجابية تُرصد على نحو خجول، مثل تلك المؤشرات المرتبطة بانخفاض هوامش الأرباح وحالات الإفلاس والإعسار والبحث عن ملاذات آمنة في دول مجاورة، وتراجع الطلب الناجم عن تزاحم الأقدام وصغر حجم الكتلة السكانية، وارتفاع التكاليف التشغيلية، علاوة على مُعضلة التمويل والبيروقراطية وغيرها من المشكلات.
لكن الأهم مما سبق، أن هذه المشكلات تتعمق كسابقتها في ظل عدم وجود مراكز متخصصة في رصد هذه المُتغيرات وأدوار محدودة لغرفة تجارة وصناعة عمان لدفع بملفات القطاع الخاص.. ومن هنا نقول إن التقدم والنمو الكلي يحتاجان إلى شمولية الرصد وتوضيح الأدوار دون تغوُّل طرف على آخر، فكما كانت للحكومة أدوار مهمة في المرحلة المنصرمة، فإن للقطاع الخاص والأفراد في المجتمع أدوارًا لا تقل أهمية خلال المرحلة المقبلة، ولا يجب تهميشها، وإلّا سنظل نواجه نفس التحديات السابقة.
نعم.. نقول إن الاقتصاد العماني يتقدم الى الأمام، لكن بخطوات بطيئة، لا تتناسب مع احتياجات التنمية المحلية من حيث خلق فرص العمل وتنويع القاعدة الإنتاجية، وتعظيم استغلال الموارد الطبيعية وتنمية المحافظات، ولا تتناسب مع الموارد البشرية والطبيعية والبنية الأساسية المتاحة. ولا يزال سعي الاقتصاد العماني لتحقيق نمو طويل الأجل ومُستدام بعيد المنال؛ إذ شهد الاقتصاد العماني فترات من النمو المرتفع، لكنها واجهت دائمًا التحدي المتمثل في إدامة هذه المعدلات بسبب الصدمات الخارجية، وخاصة تلك المتعلقة بأسعار الطاقة في الأسواق الدولية.
وفي الختام.. نؤكد أهمية وجود مراكز أبحاث مُستقلة أو شبه حكومية، لتُسهم بأدوار أساسية في دعم المؤسسات الحكومية والخاصة، وتسليط الضوء على القضايا الاقتصادية والاجتماعية المُلحَّة، وتقديم المقترحات والتوصيات المبنية على الحقائق والبيانات في المجالات المختلفة بأسلوب شمولي ومستقل.
ونُشدد على أن مراكز الأبحاث مُكوِّن لا غنى عنه للدولة العصرية، لمساعدتها في صناعة القرارات ووضع السياسات العامة المُستندة على المعرفة المُسبقة بنتائج هذه السياسات. ولأن مثل هذه المراكز ليست جزءًا مُباشرًا من الحكومة، فهي تتمتع بمساحة حرة من التفكير الإبداعي، وهامش معقول للاجتهاد، وجسارة في التحليل، بعيدًا عن التحيُّزات الموجودة داخل المؤسسات الحكومية.. وهذه المراكز ستقدم يد العون لصاحب القرار السياسي من أجل تنويع خياراته. ولضمان مُضي السلطنة قدمًا في تطبيق رؤيتها المُلهمة والتي تُنادي بتحوُّلات نوعية على مختلف الأصعدة، يتعين تحقيق مُقاربات صعبة تستوجب وجود مثل هذه المراكز وإدارتها بمهنية عالية، وتوليها مسؤولية تعبئة الموارد وحشد الهمم في الاتجاه المرغوب؛ بدلًا عن الاستناد المُخل على ما تطرحه وسائل التواصل الاجتماعي من تحليلات عاطفية وانفعالية، أو روايات غير معروفة المصدر.
وأخذًا في الاعتبار التغيُّرات المُتسارعة على مختلف الأصعدة، فإنَّ تسهيل وتشجيع إنشاء؛ بل والإسراع في مراكز للأبحاث والدراسات كما هو الحال في مختلف الدول المتقدمة، من أجل ضمان تنظيم وتطوير الأفكار والسياسات، وإشراك قادة الفكر، ومواكبة العوامل الإقليمية والعالمية التي تُشكِّل الأنظمة السياسية والاقتصادية الإقليمية والعالمية ومراقبة الاتجاهات الإقليمية والعالمية، بجانب توقُّع المخاطر وسياسات تخفيفها.