مؤشرات مقلقة (3)

شراءُ الضمائر والذّمم

 

د. صالح الفهدي

 

إنّها لمأساة أن يصل مرشّحٌ إلى مجلس الشورى عبر شراء الضمائر والذّمم، ثم يُسائل مسؤولًا عن إجراءاتٍ غير سليمة، أو قوانين عقيمة، أو انتهاكات لمسؤوليات، أو إخلالٍ بواجبات، وهو وحده جاء إلى المجلس عبر الدرهم والدينار!!

كيف يمكنُ تقبُّل أمر الشورى (الديمقراطية) التي يفترضُ أن تكون نزيهةً قائمةً على الكفاءة في الترشيح، والأمانة في الترشُّح؟ كيف سيكون وجهُ هذا العضو الذي جاء برشوةٍ دفعها، وحاجةٍ لفقيرٍ استغلّها؟ ثم يدّعي أنه ينافحُ من أجل حقوق الناس، والمطالبة بمصالحهم، وإضافة صلاحياتٍ للمجلس!

نحنُ في الحقيقة أمام تناقضات تشكّل مؤشرات مُقلقة، فقد ظننا أننا وبعد أكثر من ثلاثين عامًا من إنشاء مجلس الشورى (عام 1991) أن الثقافة المجتمعية قد نضجت، وأن أفراد المجتمع لن يتحيّزوا لا لفلانٍ من القبيلة، ولا لمن يدفعُ أكثر!! وظننا أن الأعضاء المرشحين سيكونون على درجةٍ عاليةٍ من النزاهة والأمانة لكي يصلوا إلى المجلس وضمائرهم نقية كمثل ثيابهم البيضاء.

لكن القصص التي يرويها بعض أعضاء مجلس الشورى أنفسهم في وسائل الإعلام المختلفة تقدّم أدلّة على أن الثقافة العامة لا تزال بحاجةٍ إلى نضج ووعي، وأن الكثير من المرشحين إلى مجلس الشورى لا يعنيهم سوى أن يصلوا بأيّ ثمنٍ كان، إلّا من كان صاحب ضميرٍ حيٍّ، ونفس متجرّدة من المصالح الضيّقة، التي لا يعني صاحبها إن فاز أو لم يفز بعضوية المجلس لكنه لن يشتري ذمةً وضميرًا فينكتُ ذلك نكتةً سوداء في سجلّ سمعته..!

يقول أحد أعضاء المجلس إنّ جماعةً جاؤوا إلى ممثلهم في مجلس الشورى يعاتبونه في عدم متابعة مصلحةٍ من المصالح فقال لهم: لقد أخذتم حقّكم عند ترشيحكم لي وقبضتم مبالغكم وليس لكم من حقٍّ تطالبونني به!! وهذا ردٌّ طبيعي لمن باع ذمّته وأمانته ببضعة ريالات، ولمن وصل بطريق غير مستقيم لعضوية الشورى!

أما أحد الأعضاء المرشحين لمجلس الشورى، فقد أشار إلى أنه تحدث إلى أحد المرشحين السابقين الذين لم يصلوا إلى المجلس بعد أن دفعوا 200 ألف ريال، معترفًا- حسب قول المرشّح- بأنّها كانت رشوة!!

يقفُ المجتمع اليوم أمام مسؤوليته أمام الله والتاريخ والوطن ليقرّر: هل يريدُ مجلس شورى به نسبة من الأعضاء وصلوا عن طريق شراء الذّمم والضمائر، في سبيل وجاهتهم، وقضاء مصالحهم؟ أم أنه يريد مجلسًا نزيهًا بكامله، بعيدًا عن المساومات المعوجّة، والإستغلال غير الأخلاقي لحاجات الناس؟

على المجتمع أن يقف اليوم أمام واجبات دينه الذي يفرضُ عليه أن يكون أمينًا على وطنه، فيترفّعُ عن الإرتشاء، ويربأ بضميره من أن يُشترى ببضعة ريالات من أجل مرشّح لا همّ له سوى أن يحصل على لقب "سعادة" وربما معها لقب "الشيخ" وتبعاتها من الوجاهة، ليدخل بها إلى مصاف "الكبار"..؟! فالأمانة هي لبُّ الإيمان، يقول المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام: "لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له" (مسند أحمد).

على المجتمع أن يقف اليوم ليقرر جدوى منح المجلس صلاحيات أوسع، فذلك يعتمدُ على اختياراته للأعضاء الأكفياء ليكونوا هم الأصلح والأجدر للتعامل مع المرحلة الحالية.

على المجتمع أن يقف اليوم ليقرر هل ينحاز إلى ابن قبيلته أو قريبه الذي لا يتمتع بالكفاءة والأهلية لعضو مجلس الشورى، أو ينحاز إلى المرشح الكُفء الذي يمثّله خير تمثيل نظرًا لكفاءته وجدارته؟

أعجبني كلام رجل بسيط، يقوله بعفوية وهو يهذّب عيدان العنب، ودون أي تصنع؛ إذ يتكلم وهو يقطّع الأعواد بقطّاعته، وكان محتوى كلامه واضحًا وصريحًا في أن على المجتمع أن لا ينحاز لا لابن عمٍ ولا لرفيق قبيلة ولا لقريب رحم، وإنما إلى الجدير والكُفء، فقبل أن يطالب المجتمع بتوسيع الصلاحيات عليه أن يبدأ بنفسه في اختيار الأصلح والأفضل من المرشحين.

كلامٌ لا يريدُ تصنعًا ولا ابتداعًا، وإن يريدُ عقلًا نظيفًا، ومنطقًا واضحًا، وضميرًا نقيًا، وحرصًا على الوطن ومستقبله، ونجاح مسيرة الشورى فيه، وفاءً لمن أرسى دعائمه السلطان قابوس بن سعيد طيّب الله ثراه، ودعمًا لقيادة جلالة السلطان هيثم بن طارق حفظه الله ورعاه لقيادة هذا الوطن العزيز.

على أنه إذا كان هذا واجب المجتمع، فإنّ على الجهات المسؤولة في الحكومة أن لا تسمح لهذه التجاوزات اللاوطنية، التي تمسُّ سمعة الشورى، وتضرُّ مساره؛ بل تفضح المرشّحين الذين سلكوا الطريق المعوجّ لشراء الذمم والضمائر ليرفعوا عقائرهم فيما بعد تحت قبة المجلس منادين بالقيم الوطنية العُليا، وليس الكشفُ عن هؤلاء صعبًا. حينها سيتوقف كل من انتهج هذا المسلك عن الرشوة وحيازة البطاقات الشخصية وغير ذلك مما يخالف مسيرة الشورى؛ بل ومواد القانون، ويعملُ على وصول أعضاء ليسوا أهلًا بعضوية مجلس الشورى، المجلس التشريعي الذي يفترضُ أن يرسم توجهات تتعلق بمستقبل الوطن.