ضمير الوطن سيبقى حيًّا

 

حمد الحضرمي **

 

تأكيدًا للمبادئ التي وجهت سياسة الدولة في مختلف المجالات خلال العقود الماضية، وتصميما على مواصلة الجهد من أجل بناء مستقبل أفضل يتميز بمزيد من المنجزات التي تعود بالخير على الوطن والمواطنين، تأسس في عام 1999 جهاز الرقابة المالية للدولة وفي عام 2011 أمر السلطان الراحل قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- بتوسيع صلاحيات جهاز الرقابة المالية للدولة بإضافة الرقابة الإدارية، وتم تعديل مُسماه ليصبح جهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة، ومُنح أعضاؤه صفة الضبطية القضائية، ومنذ ذلك الحين والجهاز يواصل جهوده من أجل إعلاء قيم النزاهة والمحاسبة.

وبصدور المرسوم السلطاني رقم (111/ 2011)، أصبح جهاز الرقابة ينعم بحيادية سلطاته، ويحاكي في هيئته الجديدة الأجهزة النظيرة حول العالم؛ إذ يهدف الجهاز إلى حماية الأموال العامة للدولة، والأموال الخاصة التي تديرها أو تشرف عليها أي من الوحدات الخاضعة لرقابته، والتثبت من مدى ملاءمة أنظمة الضبط والرقابة الداخلية وسلامة التصرفات المالية والإدارية، واتباعها للقوانين واللوائح والقرارات التنظيمية، وتجنب وقوع تضارب المصالح والمخالفات المالية والإدارية، وتقييم أداء الجهات الخاضعة لرقابته، والتحقق من استخدام الموارد بطريقة اقتصادية وبكفاءة وفاعلية، والكشف عن أسباب القصور في الأداء والإنتاج وتحديد المسؤولية، وامتدت رقابة جهاز الرقابة لتغطي كافة محافظات السلطنة. وما التقرير السنوي لعام 2022م الصادر عن جهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة قبل أيام باسم "ملخص المجتمع"، إلّا ليبين للجميع أن الدولة ماضية في نهضتها المتجددة بقيادة حكيمة من سلطان البلاد هيثم بن طارق المعظم- نصره الله- في تطبيق النظام والقانون على الجميع، وتقرير الرقابة كشف جحم الجهود المبذولة من هذا الجهاز الدقيق في أعماله وتخصصاته، والذي كشف عن جرائم المال العام، واستغلال الوظيفة، والتربح غير المشروع، وغيرها من الجرائم، وقد بلغ عدد قضايا الأموال العامة للدولة في العام 2022 نحو 113 قضية.

وظاهرة الفساد قديمة قدم وجود الإنسان في هذا الكون، ورغم محاولات فهم هذه الظاهرة بأبعادها المختلفة، إلّا أنها ما زالت عصية على العلاج؛ بل إنها تتجدد مع تجدد أنماط الحياة البشرية والمكتشفات العلمية التي تواكبها، فالفساد من حيث المفهوم يعني الخلل والاضطراب وبالتالي إلحاق الضرر بالأفراد والمجتمعات، وهو ناتج عن سلوك البشر مصداقًا لقول الله تعالى: "ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ" (الروم: 41) والإنسان الفاسد هو الشخص غير النزيه الذي لا يتحلى بالأخلاق في تعامله مع غيره، ومنظمة الشفافية الدولية تعرف الفساد بأنه "سوء استغلال السلطة المعطاة للشخص لتحقيق مكاسب شخصية" أي أن الفساد يعني سوء استغلال الموظفين في قطاعات الأعمال لتحقيق مكاسب شخصية لهم، والفساد له عدة سلوكيات غير الرشوة؛ لأن الرشوة كالعمولة تحصل عندما يقوم المتعامل بدفع مبلغ مقطوع، أو نسبة من قيمة المشروع، أو مكافأة أخرى كالأسهم، أو معلومات سرية للموظف الذي يسمى مُرتشيًا في هذه الحالة، وذلك مُقابل حصول المُتعامِل على خدمة أو رخصة ليس له فيها حق كحصوله على مناقصة، أو خصم في الضريبة، أو غيرها من صور التهرب من الواجبات أو الحصول على مكاسب غير مستحقة. أما الابتزاز فيحصل عندما يستغل الموظف سلطته في الحصول على نقودٍ أو مكافأة أخرى، مما يعني أن المتعامل يدفع لخدمة يستحقها، وقد يستخدم الموظف الإكراه أو التهديد، أما الاختلاس هو عبارة عن سرقة موارد الدولة من قبل الموظفين الذين يحققون مكاسب لأنفسهم من غير تواجد متعامل.

وهذا يعني أن كلًا من الرشوة والابتزاز والاختلاس، هي ممارسات تعبر عن تجاوزات الموظفين في مسؤولياتهم وواجباتهم، وإلحاق الضرر بمصالح الدولة، أو الضرر بمصالح المواطنين بمعنى أدق، كما أن الموظف يمكنه إخفاء الكثير من الحقائق والبيانات وتزويرها وتحريفها لتحقيق مصالح شخصية كالتورط في غسيل الأموال، وهذا ما يسمى بالاحتيال، وهناك ممارسات أخرى كاستغلال السلطة العامة، كما إن المحسوبية هي صورة من صور الفساد، وتعني تقديم الخدمات والمنافع للأقارب والأصدقاء من غير استحقاق، كتوزيع الأراضي الحكومية السكنية والتجارية والصناعية والزراعية أو أراضي الانتفاع، ومنح قروض مُيسرة بلا فوائد، لأشخاص غير مستحقين لها، وبصورة أخرى يتم تقليد المناصب لأشخاص لا يستحقونها وغير مؤهلين لها، مع وجود أشخاص ذوي كفاءة عالية، وكل هذه الأفعال والتصرفات وغيرها تكون ضارة بمصالح الوطن والمواطنين.

إن السيطرة على الفساد- لا أقول استئصاله فهذا أمر مستحيل- أمرٌ ممكنٌ إذا توفرت شروطها، وهي كثيرة ومتنوعة بتنوع أشكال الفساد والبيئات التي يوجد فيها، ولدينا تجارب ناجحة حول العالم قد سيطرت على الفساد من خلال وجود قياداتٍ شرعية لها مصداقية، ولديها الإرادة السياسية لمحاربة الفساد وتغيير ثقافة المجتمع ودفعه إلى رفض الفساد بكل درجاته وأشكاله. وقد يكون رئيس وزراء سنغافورة السابق لي كوان يو، مثالًا على هذه القيادات؛ حيث نجحت سنغافورة في عهده بأن تصبح من الدول الأقل فسادًا في العالم بنسبة مئوية بلغت 97.1، وهذا الأمر يتطلب لتحقيقه جهودا كبيرة من سلطات الدولة الثلاث: التنفيذية والتشريعية والقضائية، ووجود قوانين تُلزم مؤسسات الدولة بتوفير معلومات كافية عن سياساتها تمكن بقية مؤسسات المجتمع من تقييم أدائها، أي تعاون مكونات المجتمع وتفاعلها مع مؤسسات الدولة، هو شرط لنجاح مكافحة الفساد، لأنه من غير مشاركة فاعلة من المواطنين، ووسائل الإعلام الحرة، والقضاء المستقل، ليس من الممكن السيطرة على الفساد.

ويوضح مؤشر تصور الشفافية الصادر عن منظمة الشفافية الدولية أن دول الشرق الأوسط وغالبيتها دول عربية، كان تصنيفها دائمًا دون المتوسط العالمي من حيث النزاهة، وغالبيتها دول عربية نفطية، كما تؤكد بيانات البنك الدولي أن أداء دول الشرق الأوسط فيما يتعلق بالشفافية والتعبير عن الرأي وكذلك السيطرة على الفساد، هو دون المتوسط العالمي مع بعض التفاوت، وكل هذه المؤشرات تعتبر جوهرية لتقليل الفساد، وتقرير النزاهة العالمية يقيم الإطار القانوني لمكافحة الفساد ودرجة تنفيذه على أرض الواقع، ويبين مدى قدرة المواطنين على استخدام آليات محاربة الفساد؛ حيث ثبت أن بعض الدول العربية تعاني من ضعف القوانين التي تكافح الفساد، لأنَّ بعض النخب من المسؤولين في بعض هذه الدول لا تسمح بتطبيق القوانين عليها، لأن هذه النخب هي مصدر الفساد، ولكن ضمير الوطن سيبقى حيًّا لا يموت، وسينتهي يومًا هذا الفساد.

** محامٍ ومستشار قانوني