ماجد المرهون
يَسعد الإنسان بفطرته مع الخصب والنماء فتزدهر حياته وتورق بمقومات ترفد معيشته وتدلف به إلى موائل حفظ كرامته مستغنيًا بها عن استجداء ميرته، فيحول وفرتها إلى صون عفته وكفالة أهل بيته وأسرته وتصرفه عند ذلك الكفاف إلى كف لسانه عمَّا قد يختلج في نفسه من نقص ويداه عمّا يسد به حاجته في حال الفقر والعوز؛ ومما لا شك فيه أن كابوس قحط وجدب يساور كل المجتمعات؛ فهي مذ كانت واقعة بين مقاوم ومكافح لهما بما أوتيت من معطيات عملية وعلمية وتجارب سابقة وخبرات لدفع الضرر أو التقليل من شدته وبين هارب من مكان إلى آخر ومتنقل سعيًا في أثر مَندُوحَةِ الموارد وبحبوحة الكلأ، يعود الإنسان بذلك سيرته الأولى ليعيش فسحة حياته القصيرة في رحاب موارد وفيرة خصيبة تزيح عن كاهله هموم الفاقة الكئيبة.
إن المجتمعات الإنسانية تنشد في سعيها الحثيث إلى توفير حياة كريمة لنفسها دون إصابة فاقة أو مخمصة بفرد واحد منها وذلك من خلال تكييف ظروفها المحيطة وتطويع سُبل المصالح وتبسيط تواصلها، ومع نزعات بشرية أحيانًا قد تنشأ صراعات الأطماع فيما بينها من الناحية النظرية التطورية للأقوى وليس الأصلح بالاستحواذ على القدر الأكبر من مساحات الأرض والموارد المتاخمة لها، ثم تحول تلك الصراعات لاحقًا وتطورها إلى التملك الشخصي أو المشترك في نطاق المجتمع الواحد وهو ماسيجعل منه اللاعب الرئيس لدور فصل الطبقات عند سيادة الاستقرار المكاني واستتباب أسس التموضع لكل مجتمع قادم.
وعندما ضاقت رؤية المصالح إلى المستوى الجماعي وأتسعت إلى المنظور الفردي ظهرت التقسيمات المجتمعية وباتت الطبقات الغنية ذات الجاه والنفوذ هي المتمكنة للتقارب الشخصي من السُلطة ومواقع صناعة القرار كالأرستقراطيين في الغرب قبل الثورة الصناعية وتحكمها بطبقات البرجوازيين والفقراء من الفلاحين والعمال مع أن النبلاء لا يشكلون 2% من عدد السكان، وكذلك كان رجال الدولة وأهل البيوتات في الدولة العباسية وعائلات وبعض ولاة خلفاء الدولة الأموية والفاطمية وكبار القادة ورجال القصر في الدولة الأيوبية والعثمانية، فأصبحت هي الفئة العليا المتسلطة على الفئات الدنيا والتي تشكل النسبة الساحقة من تكوين المجتمعات ولكنها قبلت بالحياة كرهًا في ظل الظروف المعيشية القاسية ورهبًا من سطوة طغيان الطبقات المتنفذة ورغبًا في تجنب العقاب والسجون، بيد أنها كانت تحيا في تلك العذابات بشكل غير مباشر ويعزيها بصيص من آمال الوعود الوهمية وحلم تغير الأحوال والمآل بعيد المنال.
كانت الخدمات العامة تقدّم للمجتمعات من طبقة الكادحين في أدنى مستوياتها مقابل ما تستحوذ عليه طبقة المُنعّمِين من مآثر العيش الكريم وملذات الحياة الرغيدة؛ كالقصور والأنعام والخدم والشراب والطعام وممارسة الهوايات وإقامة الحفلات، فتغوّلت عائلات محددة وامتلأت خزائنها كعائلة ويستمنستر وبيدفورد في إنجلترا وآل بورن ودوماس الفرنسيتين وعائلة هوهنستاوفن الألمانية قبل إقرار دستور فايمر في ألمانيا، والذي أفقد النبلاء كل امتيازاتهم السلطوية، وبعد أن أخذت الطبقة البرجوازية من الأدباء والمفكرين والفنانين والعلماء بالتفاعل التدريجي مع بدايات الثورة الصناعية وسحب البساط من تحت أقدام نبلاء الأسر المتنفِّذة تهيأت الأرضية المناسبة لإرساء قواعد الرأسمالية وصعود أسر وعوائل جديدة من الطبقات العامة بعد الحرب العالمية الثانية حتى تصدرها الواضح للمشهد العام للثراء ولا تزال بعضها إلى يومنا هذا.
لقد ألقت تلك الأحداث والتطورات بظلالها على العالم المُعاصر الذي نحياه اليوم ولكن باتخاذ نمط رسمي تحميه الدول بموجب قوانين وأعراف تجارية دولية على هيئة شركات أهلية خاصة وعامة وشبه حكومية وحكومية كما كانت القوانين في العصور الوسطى تحمي طبقة النبلاء الأرستقراطيين وتحابي طبقة البرجوازيين، فانقسمت الشركات إلى نوعين في تقديم خدماتها للمجتمع حتى يحيا الحياة الطيبة الكريمة؛ ويفترض ذلك. فهناك نوع اختياري لا يجبر أحدًا على التعامل معه، إلّا برغبة شخصية في إطار التنافس التجاري وتعدد الخيارات، ونوع آخر من الشركات إلزامي، يضم تحت مظلته الخدمات الأساسية كالماء والكهرباء وإن كانت الخيارات متاحة مع شركات الاتصالات إلّا أنها تُعد ضمن الأساسية. وقد ورثت هذه الشركات عملاءها من تركة الحكومات، وبذلك لم تكن التعددية وحرية الاختيار متاحتيْن للمستهلك حتى يقبل أو يرفض برغبته الشخصية؛ فهو محسوب ضمن المنقولات، فضلًا عن تصرف بعض هذه الشركات لاحقًا ببيع نسب عالية منها إلى شركات أخرى غير وطنية، وبالتالي يكون العميل المواطن الذي لا خيار له مساهمًا في دفع ماله نظير توفير الخدمة إلى جهة واحدة معروفة في الصورة العامة أو الظاهرة من بعيد وتتقاسم الأرباح في الصورة الأصلية عن قرب مع شركات ثانية.
وتبدأ الأرباح في الازدياد التراكمي مقابل خدمة أساسية لا غنى عنها، ويتناقص الدعم على المستهلك تدريجيًا مع صناعة شرائح مجتمعية حتى يتخذ هذان الخطان مسارين متكافئين ويسايرهما شعور المستهلك في نوع من السأم والضجر والامتعاض الذي يثقل كاهله حتى ينوء بحمله في شح الخيارات أو بالأحرى انعدامها، ليبقى كذلك مرغمًا ولا يجد لنفسه مناصًا من بث شكواه لصاحبه وأسرته ثم إلى محيطه. ومع تطور الأمر شيئًا فشيئًا يتحول إلى ظاهرة تشغل الرأي العام الذي اتفق شبه مجمعًا على الأمر. وبما أن حرية الرأي والتعبير مكفولة للجميع، فإنِّه وبعد عدة ملاحظات وشكاوى وقد يتحصل على ردود أو تبريرات غير مُقنِعة، كما إن النتائج الواقعية والبدهية غير منطقية بالنسبة له؛ فهو العميل ويُقال دائمًا "العميل على حق"! فيبدأ بالانتقال إلى المرحلة التالية؛ وهي التصعيد على مستوى مواقع التواصل التي أصبحت عصب الإعلام للمجتمع العالمي.
قد تساهم بعض الشركات في تكريس نوع حديث من الطبقية الاجتماعية، ولكنها هنا مبنية على الأموال مقابل الخدمات الأساسية، بحيث يجد المستهلك نفسه على شفير الإفلاس، وأن معظم ما يُجنيه لا يكفي لسد الحاجة والوفاء بكل الالتزامات الضرورية حتى يشرع- وقبل نهاية الشهر- في الاقتراض من أهله أو صديق أو زميل ما، يُساعده على ملء خزان سيارته بالوقود للذهاب إلى عمله؛ إذ إنَّ دخله الثابت كالوتد لم يتغير من سنين، بينما ترتفع أسعار المواد الاستهلاكية والخدمية بشكل مستمر وبالتالي تتشكل طبقة جديدة شبه مخفية من الفقراء كونها تتمتع بمقومات الحياة الحديثة من الخدمات ولو في أدنى مستوياتها.
وكما يتطور كل شيء من حولنا فإنَّ الفقر كذلك يتطور؛ فلم يعد فقير اليوم كفقير الأمس الذي يرتدي رث الثياب ويأوي إلى ظل شجرة أو خيمة أو يمد يده للناس إلحافًا؛ بل إن فقير اليوم لديه زوجة وعيال لا يستطيع الإنفاق عليهم، ولديه منزل لا يمكنه دفع فواتير كهربائه ومائه، ولديه سيارة لا يقدر على إصلاحها حين تتعطل ويلبس ما يراه الناس مناسبًا، ولا يمد يده للناس أعطوه أم منعوه، إن فقير اليوم متعلم مثقف قادر على الحساب والتقييم والفهم والتحكيم والتمييز بين الخطأ والصواب.
يا محدثي بالنماء جنبني رهبة الجدب
وإن شكوتك موقفي فإني لا أقوى الخصام
لك حدثت بالبيان في سجلك والكتب
فسامحني لك الوفاء ومُجبرًا بالالتزام