نُكران الجميل.. من صفات اللئام

 

حمد الحضرمي **

 

أمرنا الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم ألّا ننسى الفضل فيما بيننا، وأن ننسب هذا الفضل إلى أهله، ولما كان الله- عز وجل- هو صاحب الفضل في الأولى والآخرة، فقد امتدحت آيُ الذكر الحكيم من يعترف بهذا الفضل له سبحانه، كما نعى الله على الكفار جحودهم ونكرانهم لفضله وفضل الأنبياء؛ فمنزلة الاعتراف بالفضل منزلة جليلة لما يعود منها من خير على المجتمع بأسره؛ حيث يؤدي ذلك إلى استقرار هذا المجتمع وتآلف أفراده وتشجيع ذوي الفضل على الاستمرار في تفضلهم الذي يلقى الاعتراف من الآخرين.

ولما كان من طبع الإنسان أن يَسعد إذا نُسب إليه الخير وكلمات الشكر، فإنَّ الاعتراف بالفضل باعثًا على مرضاته، بعد مرضاة الله تعالى؛ لأنَّ من يشكر الناس فإنما هو في الحقيقة يشكر المولى جل جلاله الذي أجرى الخير على أيديهم، وقد جاء في الحديث "من لا يشكر النَّاس لا يشكر الله".

لقد مرَّت على بعضنا لحظات وأوقات في غاية الصعوبة، ولا تنسى من الذاكرة والوجدان، قدمنا فيها طوال أيام وأشهر وسنوات المعروف والفضل والجميل والإحسان والسخاء والكرم والشهامة والكرامة والجود والمروءة، لناس كنَّا نظنهم أوفياء لا ينسون الفضل والإحسان، ولا ينكرون الجميل والمعروف، ولكننا للأسف الشديد كُنَّا فيهم مخدوعون؛ لأنهم من أصحاب النفاق والخسة والدناءة، فهؤلاء هم ناكرو الجميل، الذين ينكرون كل جميل ومعروف وإحسان، فهؤلاء لا يعرفون إلّا الأخذ واستغلال الناس الطيبة الكريمة، ولا يستحقون أن تعيش معهم أيام عمرك وحياتك، ولا تضع معهم أوقاتك وجهودك وأموالك، لأنهم لا يملكون القيم الحميدة والأخلاق النبيلة، فاتركهم وارحل عنهم قبل أن تخسر أشياء كثيرة، ولا تضع عمرك في خدمة مثل هؤلاء الأشخاص عديمي القيم والأخلاق ناكري الجميل، ولا تفكر فيهم ولا في لومهم، لأنهم يعيشون في مملكة النكران، أصحاب هذه المملكة صفاتهم كلها مذمومة غير محمودة.

نعم لقد حطّم هؤلاء أزاهير قلبك، وجعلوا الحياة مظلمة في نظرك، لأنهم نكروا الجميل، ولم يكونوا أوفياء ولا أتقياء، ولا يعرفون كلمات الشكر والثناء، لمن قدم لهم الخير والعطاء، فدعهم ولا تكثر عليهم التأسف، وعش مع الله الشكور الذي إذا قدمت له عملًا صالحًا واحدًا يشكرك بجلاله وعظمته ولا ينساك، ويرد لك عملك الصالح أضعافا مضاعفة كالحبة التي أنبتت سبع سنابل، في كل سنبلة مائة حبة، وإذا أعطاك الله أدهشك بكرمه وفضله، لأنه أكرم الأكرمين.

وقد عظّم الله ثواب أهل الإحسان فقال تعالى: "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" (البقرة: 195)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء..." وللإحسان شمولية ودائرته تتسع لتشمل النفس والأسرة والأقارب ثم المجتمع والإنسانية عامة، وكذلك الحياة بكل ما فيها من نبات أو حيوان أو جماد، وعلينا غرس معنى الإحسان والمعروف والفضل في النفوس حتى يعيش الناس في محبة وألفة وود ووئام.

قال الشاعر:

أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم

فطالما استعبد الإنسان إحسانُ

فكيف ينسى الإنسان فضل الله عليه، ويتصرف كما لو كان خالق نفسه ومالك أمره ومدبر شؤونه، لقد خلق الله الإنسان في أحسن تقويم، ووهبه من النعم ما لا يحصى ولا يعد، فعلينا ذكر الله وتعظيمه وشكره على نعمائه وعدم نسياه، لأن نسيان الله يترتب عليه نسيان النفس "وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ" (الحشر: 19) والمصيبة في هذا الزمان أن الإنسان نسى الله ونسى نفسه ونسى الآخرين من أصحاب الفضل والمعروف والإحسان إليه.

فكيف ينسى الإنسان فضل ومعروف والديه عليه، وقد قدَّما إليه مُنذ الصغر الكثير من التضحيات التي ليس لها مثيل، والكثير من العطاء الذي ليس له حدود، وكيف ينسى الأخ فضل أخيه، الذي إذا وقع في أي مشكلة أو معضلة ويحتاج إلى السند والعون يجد أخيه بجواره يسانده ويعينه دون أي تردد ودون أي مقابل، ومن ينسى فضل المعلمين والمربين والعلماء أصحاب الفضل علينا، لما قدموه لنا من العلم والمعرفة والثقافة والعلوم والفنون بمختلف أنواعها وأشكالها، وكانوا لنا محبين وداعمين وصابرين، وكيف ينسى الصديق فضل صديقه، الذي يجده حاضرًا معه في أوقات الشدة والضيق، وكيف ينسى الزوج زوجته شريكة حياته صاحبة الوفاء والإخلاص والعطاء بلا كلل ولا ملل، وكيف تنسى الزوجة زوجها الذي يسعى ليل نهار لتكون أسرته في أحسن الأحوال، فالواجب علينا أن نقدم لهؤلاء ولكل من قدم لنا معروفًا وإحسانًا، الشكر والتقدير والثناء والعرفان، وأن نحسن إليهم لنرد إليهم ولو القليل من أفضالهم علينا.

والشكر نوعان؛ الأول: شُكرٌ باللسان وهو الثناء على المنعم، والثاني: شُكرٌ بجميع الجوارح، وهو مكافأة النعمة بقدر الاستحقاق. وإذا عجز الإنسان أن يرد الجميل فلا ينكره، ولا يكون كالأعمى الذي ينكر جميل العصى، فعندما يبصر يكسرها، إن ناكر الجميل هو شخص لا ضمير له وقلبه مريض، لأنه كان يتمتع بفضل الآخرين عليه، واليوم قد نسى كل ما قدم له طوال سنوات، والمصيبة تكمن في ناكر الجميل بأنه إذا غضب منك نسى فضلك، وأفشى سرك، ونسى عشرتك، وقال عنك ما ليس فيك، فهؤلاء هم أصحاب النفوس القبيحة، وأما أصحاب النفوس الجميلة التي لا تنكر المعروف رغم شدة الخلاف، فدائمًا تقول لك من أعماق القلب إذا صنعت لها معروفًا شكرًا جزيلًا لك وجزاك الله خيرًا ولا تنساك من الدعاء.

وإنه لمن المؤسف والمحزن حقًا أن يُنكر الشخص الفضل والجميل والمعروف الذي قدم له لسنوات طويلة- من الوالدين أو من الأخوة أو من الأصدقاء أو من الأزواج أو من غيرهم- وينسى كل الجهود المبذولة والعطاء المثمر حتى أصبح شخصًا له مكانته في المجتمع، وكان صاحب الفضل والمعروف يظن بأنه هذا الشخص لن ينساه لما قدمه له من أفعال جليلة ومواقف عظيمة، ساعدته ومكنته ليكون له كيان ومكانة واعتبار، وأنه سيرد له معروفه وفضله بأحسن منه في يوم من الأيام، ولكن بين عشية وضحاها يتفاجئ بتغير الأحوال وينقلب هذا الشخص رأسًا على عقب، ويبدأ في محاربة من أحسن إليه بالأمس، ويكيل عليه التهم والإهانات والسب والشتم والذم والقذف لاتفه الأسباب، ويقلل من قدره واحترامه، ويكون ضده في كل شيء وفي صف أعدائه وخصومه، هنا يتضح لك جليًا بأن هذا الشخص من مملكة ناكرين الجميل والفضل والمعروف، وبدون تردد أتركه وارحل، لأن معدنه رخيص، ولا يستحق التقدير بعد اليوم، لأن القناع انكشف وظهرت حقيقته، وبانت صفاته على أرض الواقع، وانسلخ من إنسانيته، وهذا ومثل هذا من ناكرين الجميل في زماننا كثر.

تجنبوا أصحاب العقول الصغيرة والنفوس المريضة، وابحثوا دائمًا عن أصحاب النفوس والعقول الكبيرة، التي تنير لكم دربكم بالصدق والوفاء وتمنحكم السعادة والحياة، وكونوا على حذرٍ من العلاقات الاجتماعية الفاسدة التي أصبحت معظمها في زماننا قائمة على المصالح والنفاق والجحود ونكران الجميل والفضل والمعروف، لأن نفوس هؤلاء خسيسة حقيرة لئيمة، أما أصحاب النفوس الكريمة التي لا تعرف الجحود والنكران؛ فهي على الدوام مُعترِفَة لأصحاب الفضل بالفضل والإحسان؛ لأن أصحابها من الصالحين الأوفياء الأتقياء.

** محامٍ ومستشار قانوني

تعليق عبر الفيس بوك