د. محمد بن عوض المشيخي **
ماذا فعل طوفان العولمة بالأسرة العُمانية؟ كان عنوان دراسة علمية نشرت قبل حوالي عشرين سنة وبالتحديد سنة 2004، حول التأثيرات السلبية للعولمة بمختلف أبعادها الإعلامية والثقافية والاجتماعية التي غزت العالم على نطاق واسع، منذ عقد التسعينيات من القرن الماضي، مستخدمةً في ذلك شبكة الإنترنت بمختلف منصاتها الحديثة.
كانت البداية مع ظهورالمدوَّنات ومواقع الدردشة في الولايات المتحدة الأمريكية، مثل ذا جلوب (The Glob) وماي سبيس (My Space)، ثم وسائل التواصل الاجتماعي التي ظهرت في مطلع الألفية الثالثة تباعاً بداية من فيسبوك وأخواتها كالواتساب والإنستجرام؛ مرورًا بالمنابر الأخرى مثل منصة (X) أو تويتر سابقًا، وانتهاءً بتطبيق توك توك؛ والأخير اختراع صيني وحيد بين وسائل التواصل التي اخترعتها الولايات المتحدة. هذه المنصات الرقمية بالمجمل أمريكية الموطن والهوى، فهي تكرس السيطرة الإعلامية والتدفق الأحادي من الشمال الغني إلى الجنوب الفقير في مجال المعلومات؛ إلى جانب شبكة الإنترنت التي تزعم أنها أهدتها إلى العالم المترامي الأطراف مجانًا دون ثمن!
كما تعمل وسائل الإعلام بمختلف أنواعها وعلى وجه الخصوص البث الفضائي المرئي العابر للقارات كركن أساسي في الغزو الفكري، الذي يهدف بالدرجة الأولى إلى تصدير القيم الدخيلة على المجتمعات العربية والإسلامية المحافظة، والتأثير على المعتقدات الدينية والثقافة الوطنية التي تعد الورقة الأخيرة والرابحة لهذه المجتمعات التي أصبحت مُستهدفة في تراثها ومُستقبلها الوجودي.
ولعل ما خلصت له تلك الدراسة السابقة الذكر، والتي مرت علينا مرور الكرام، يُعبِّر عن واقع مُر وحقيقة يتجاهلها الجميع، ومن هذه المخاطر؛ بل أخطرها على الإطلاق "ارتفاع نسبة التعاطي والإدمان لدى الشباب، وكذلك الانحراف والسلوك العدواني، وزيادة نسبة الطلاق، وضياع الهوية العربية، وضعف العلاقات الاجتماعية بين أفراد الأسرة العُمانية".
إن الدافع لكتابة هذا المقال والإشارة إلى الدراسة أعلاه؛ هو حالة انتحار فتاة عُمانية في مقتبل العمر؛ إذ جرى تداول مأساتها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وذلك بسبب التضليل المتمثل في دعاة الحرية الذين يستهدفون شباب الأمة بكل الأساليب في غياب دور الأسرة والمجتمع والمؤسسات التعليمية، وهذه الأخيرة أكثر ما تحتاج له الدراسات العلمية المعبِّرة لإماطة اللثام عن خطورة التيارات الهدَّامة المحارِبة للدين والقيم الأخلاقية، وتُشجِّع على الإلحاد.
صحيحٌ أن سلطنة عُمان غابت عن قائمة الدول التي تنتشر فيها حالات الانتحار، بينما ضمّت تلك القائمة مُعظم الدول العربية، ومن بينها 3 دول خليجية، وهذا يعكس الوازع الديني والأخلاق الحميدة للمجتمع العُماني، لكن في كل الأحوال الحذر واجب من الفوضى الخلاقة التي تشهدها أروقة الشبكة العنكبوتية ومنصاتها الرقمية المظلمة. ولا شك أن قوة الصورة بما تحمله من تأثيرات مُتعددة على الأطفال والمراهقين قد حُسمت المعركة فيها وتفوَّقت على التحصينات التي تهدف إلى حماية المجتمع من الداخل، وذلك في ظل تراجع سلطة المؤسسات الوطنية، وعدم تمكُّنها من حماية مواطنيها ومنافذها الحدودية، وفضاءاتها المفتوحة أمام التدفق الإعلامي والرقمي الذي اخترق هذه الشعوب بلا استثناء، حتى وإن كان هذا التدفق يحمل فكرًا دخيلًا ومشاهد غير مُرحب بها، وهذه هي ضريبة الثورة المعلوماتية.
هذه المنابر الافتراضية من الإعلام الرقمي- الذي يشكل الهاتف الذكي بما يضمُّه من وسائل وتطبيقات قوتها الضاربة- تتميز بسرعة نقل الخبر، وقلة التكلفة المادية، وبُعدها عن عيون الرقابة الحكومية، وتجاوزها لحدود الدول والقارات والوصول إلى أبعد نقطة في هذا الكون، والقدرة على التفاعل مع الجمهور المستهدف.
ومن الدراسات العلمية التي نفذتها وزارة التنمية الاجتماعية بالتعاون مع جمعية الاجتماعيين العُمانية سنة 2020، دراسةٌ حول "تأثير استخدام المنصات الرقمية على الجيل الصاعد في المجتمع العُماني"؛ إذ شملت الدراسة أكثر من 2000 طفل من الجنسين في المدارس وعلى وجه الخصوص في مراحل الدراسة المتوسطة، وكشفت الدراسة عن ارتفاع نسبة امتلاك الأطفال للأجهزة الإلكترونية بمختلف أنواعها بنحو 99%؛ منهم أكثر من 75% يمتلكون أجهزة هاتف نقال، بينما كشفت الدراسة أن 89% من الأطفال يملكون حسابات خاصة على وسائل التواصل الاجتماعي!
من المؤسف أن يلجأ بعض المراهقين من الجنسين في السلطنة إلى التواصل مع الغرباء عبر شبكات التواصل الاجتماعي؛ إذ يوهم هؤلاء الأشخاص مجهولي الهوية، الأطفال بأنَّهم في نفس أعمارهم وهو يتسترون خُفيةً وراء هذه المنصات، وهذا يكشف إخفاق أولياء الأمور في توفير حوار صريح ومُقنِع مع الأبناء في إطار الأسرة، وليس المنصات التي خلصت الدراسة إلى أن 90% من الأطفال يستخدمونها للترفيه وليس للبحث عن المعلومة. ومن المفارقات العجيبة أنَّ الهوية الدينية أتت في المرتبة الأدنى ضمن مجالات الاستخدام والبحث في الإنترنت.
وفي الختام.. إنَّ التوعية بخطورة التدفق غير المسبوق للأفكار الدخيلة على المجتمع وتثقيف المراهقين والشباب وتحذيرهم من الغث المعلوماتي، يجب أن يكون من أولويات المؤسسات الاجتماعية وخاصة الأسرة والمدارس والمساجد في المرحلة المقبلة، التي يتعاظم فيها الانفجار المعرفي عبر مختلف وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، وذلك من خلال المناقشات الجادة والندوات العلمية التي يجب أن تُعقد في مدارسنا وجامعاتنا وعبر منابر الجوامع، وقبل ذلك كله يجب إجراء دراسات علمية متعمقة على المجتمع العُماني بمختلف أطيافه وخاصة المراهقين، وذلك بهدف محاصرة الغزو الثقافي بكل أنواعه.
** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري