فقه الموازنات في الشريعة الإسلامية.. ومدى حاجة الأمة إليه

 

 

 

أ-د-م عمر محمد جبه جي **
إن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد المعاش والمعاد، عدل كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت من العدل الجور، من الرحمة ضدها، من المصلحة إلى المفسدة، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل، وفقه الموازنات أهم مباحث الشريعة الغراء، التي لا غنى للمجتهد عنها بحال، فهو يضبط الفتوى، ويوجد الحلول الناجعة للمسائل المستجدة ويبين مقدرة الشريعة الخاتمة على مواكبة مسيرة التطور هذه الحياة، وقدرتها إعطاء الحكم الشرعي لكل مستجد لما تتمتع به من قواعد ومبادئ عامة تضبط جميع فروع المسائل.

تعريف بفقه الموازنات

لم يرد عن العلماء القدامى أو عن الأصوليين الأوائل تعريفٌ محددٌ لفقه الموازنات، وإنما وجدت بعض العبارات والكلمات التي كان لها تعلقٌّ ببعض محتويات هذا الفقه، كالحديث عن المصلحة والمفسدة وأقسامهما، وذكر بعض طرق الموازنة بينها عند التعارض وسبب ذلك يعود إلى أن صدر هذه الأمة لم يكونوا يتكلفون ذكر الحدود، ولا الإطالة فيها، لأن المعاني كانت عندهم واضحةً ومتمثلةً في أذهانهم، وتسيل على ألسنتهم وأقلامهم دون كدٍّ أو مشقَّةٍ ،

ومن أقوال العلماء القدماء التي تبين مفهوم فقه الموازنات، قول العز بن عبد السلام رحمه الله: "لا يخفى على عاقل قبل ورود الشرع أن تحصيل المصالح المحضة، ودرء المفاسد المحضة عن نفس الإنسان وعن غيره محمودٌ حسنٌ، وأن تقديم أرجح المصالح فأرجحها محمودٌ حسنٌ، وأن درء أفسد المفاسد فأفسدها محمودٌ حسنٌ، وأن تقديم المصالح الراجحة على المفاسد المرجوحة محمودٌ حسنٌ ،واتفق الحكماء على ذلك وكذلك الشرائع... واعلم أن تقديم الأصلح فالأصلح ودرء الأفسد فالأفسد مركوزٌ في طبائع العباد نظراً لهم من رب الأرباب... ولا يقدم الصالح على الأصلح إلا جاهلٌ بفضل الأصلح، أو شقيٌ متجاهلٌ لا ينظر إلى ما بين المرتبتين من التفاوت1" .

من كلام العز بن عبد السلام يتضح لنا أن تعريف فقه الموازنات عنده هو: (تقديم المصالح الراجحة على المصالح المرجوحة، وتقديم درء المفاسد الراجحة على ما دونها في الفساد، وتقديم المصالح الراجحة على المفاسد المرجوحة، والترتيب في التحصيل بين المصالح فيقدم منها الأصلح فالأصلح، وكذلك درء الفاسد الأفسد فالأفسد).

وقد عرفت فقه الموازنات في أطروحتي للدكتوراه بأنه:
(علم بيان الطرق والخطوات والمعايير التي تضبط عملية الموازنة بين المصالح أو المفاسد المتعارضة، أو المفاسد المتعارضة مع المصالح، أوبين الأحكام الشرعية المتعارضة أو المتزاحمة، أو بين وسائل المصالح الشرعية، أوبين الجماعات والأشخاص في المعاملة)2..

أهم ما يقوم عليه فقه الموازنات3:
1. الموازنة بين المصالح أو المنافع أو الخيرات المشروعة بعضها وبعض، وأيها يجب تقديمه عند تعذر الجمع، وأيها ينبغي أن يسقط ويلغى.
2. الموازنة بين المفاسد أو الشرور الممنوعة بعضها وبعض، وأيها يجب تقديمه عند تعذر تفادي الجميع، وأيها يجب تأخيره وإسقاطه.
3. الموازنة بين المصالح والمفاسد أو الخيرات والشرور إذا تعارضت، بحيث نعرف متى نقدم درء المفسدة على جلب المصلحة ومتى تغتفر المفسدة من أجل المصلحة.
وأضيف إلى ذلك أيضاً من وجهة نظري:
4. الموازنة بين الأحكام الشرعية عند التعارض والتزاحم فيقدم أولاها بالتقديم، فيقدم الواجب على المندوب مثلاً عند التزاحم، ويقدم ترك الحرام على ترك المكروه إذا تعذر تركهما.
5. الموازنة بين وسائل المصالح، لاختيار أفضلها إيصالاً للمصالح.
6. الموازنة في التعامل مع الناس، لإنزال الناس منازلهم، ومخاطبتهم بما تفهم عقولهم، فالناس ليسوا كلهم في سوية، فمنهم الصغير والكبير، والذكر والأنثى، والصحيح والعليل، والعدو والصديق، والمسلم والكافر، والكفار أنواعٌ، والتعامل مع هؤلاء جميعاً يحتاج إلى موازناتٍ دقيقةٍ.
ويمكنني بعد هذا العرض أن أقدم تعريفي الخاص لفقه الموازنات بعد الاستفادة من كل ما تقدم، فأقول:
فقه الموازنات هو: علم بيان الطرق والخطوات والمعايير التي تضبط عملية الموازنة بين المصالح أو المفاسد المتعارضة، أو المفاسد المتعارضة مع المصالح، أو بين الأحكام الشرعية المتعارضة أو المتزاحمة، أو بين وسائل المصالح الشرعية، أو بين الجماعات والأشخاص في المعاملة.

فقه الموازنات في واقع أمتنا.
    فقه الموازنات في أمتنا يعاني اختلالاً كبيراً، لذلك تلحظ الاضطراب في تفكير الأمة بارزاً فما يتعلق بالفن والترفيه مقدمٌ على ما يتعلق بالعلم والتعليم، فهاهي المبالغ الهائلة ترصد للرياضة والفن من غير محاسبةٍ، بينما تشكو الجوانب التعليمية والصحية والدينية والخدمات الأساسية من التقتير وادعاء العجز والتقشف، فالاهتمام برياضة الأبدان مقدمٌ على رياضة العقول .4

ومما وقع فيه المسلمون في عصور الانحطاط حتى اليوم5 :

 

-إهمال فروض الكفايات المتعلقة بمجموع الأمة كالتفوق العلمي والصناعي والحربي، الذي يجعل الأمة مالكةً لأمرها وسيادتها، وكالاجتهاد في الفقه واستنباط الأحكام، وكالدعوة إلى الإسلام، وكإقامة الحكم الشورى القائم على البيعة والاختيار الحر.
 -إهمال الفروض العينية وإعطائها دون قيمتها كفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
 -الاهتمام ببعض النوافل أكثر من الفرائض، وتقديم التحسينات على الحاجيات أو الضروريات في مختلف جوانب الحياة لافتقاد المنهجية والتفكير المنهجي العلمي الرصين، كمن يكثر من الأوراد والأذكار ولا يولي الفرائض الاجتماعية كبر الوالدين وصلة الرحم، والإحسان للجار، والرحمة بالضعفاء، ورعاية اليتامى، وإنكار المنكر أي اهتمام.
 -الاهتمام بالعبادات الفردية كالصلاة والذكر أكثر من العبادات الاجتماعية كالجهاد والفقه والإصلاح بين الناس والتعاون على البر والتقوى، والدعوة إلى العدل والشورى ورعاية حقوق الإنسان.

-اشتغال كثير من الناس بمحاربة المكروهات أو الشبهات أكثر من محاربة المحرمات المنتشرة، كمن يهتم بتحريم التصوير والغناء المنضبط ويترك موبقات السحر والعرافة والنذر للموتى، والاستعانة بالمقبورين وضياع الشورى والحرية وحقوق الشعب وكرامة الإنسان ونهب ثروة الأمة..

حاجة الأمة بكل مستوياتها إلى فقه الموازنات.
إن حاجة المسلمين لهذا الفقه ماسةٌ على كل المستويات، الفردية والاجتماعية، وعلى مستوى الدولة، فالإنسان في سعيه لتحصيل مصالحه قد تطرأ عليه ظروف تجعله لا يستطيع القيام بتحقيق مصلحة إلا بتركه لأخرى أو بارتكابه لمفسدة، أو أن يكون الإنسان في وضع لا يستطيع أن يترك مفسدة إلا إذا ارتكب أخرى أو ترك مصلحةً، ومن أجل أن يقرر ما يجب فعله في هذه الحالات المتعارضة لا بد له من العودة إلى فقه الموازنات وإلا عرَّض نفسه للوقوع في الأخطاء الفادحة5.
  وكذلك هي حاجة المجتمع الذي غالباً ما يتعرض لمواقف شائكة، تتعارض فيها المصالح العامة أو تتعارض المفاسد أو تتعارض فيها المصالح مع المفاسد، أو تتعارض مصالح المجتمع مع مصالح الفرد، ولإزالة ذلك التعارض وحل ذلك الإشكال بأحكامٍ عادلةٍ وقراراتٍ سليمةٍ لا بد من الالتزام بمنهج فقه الموازنات .
وحاجة العمل الإداري بشكل عام لفقه الموازنات ماسةٌ ، ففقه الموازنات هو أساس الإدارة والعمل الإداري ، لأنه يساعد على وضع الخطط وتحديد الأولويات وترتيبها ، وتحديد الفترات الزمنية اللازمة لأدائها .
وحاجة الدولة إلى فقه الموازنات أكبر وأخطر فالدولة هي الإدارة الكبرى ، وذلك أن الدولة هي الأكثر تعرضاً للمواقف المتعارضة التي تتطلب الالتزام والعمل بمنهج فقه الموازنات؛ إذ إن الدولة عندما تضع نظمها وخططها فإنها تحدد الأولويات لما يجب عمله من المصالح والأولويات وما يجب تركه من المفاسد، وهذه الأولويات لا يمكن تحديدها إلا من خلال فقه الموازنات الذي يستبين به تفاوت المصالح وتفاوت المفاسد وكيف ترتب المصالح والمفاسد بناء على ما بينها من تفاوت، ولإن كان ذلك في جانب التنظيم فهو كذلك في جانب التنفيذ إذ إن الدولة وهي تسير نحو تحقيق مصالح الأمة ودرء المفاسد عنها، لا بد أن يكون برنامجها التنفيذي في ذلك مبنياً على البدء بتحقيق ما هو أعظم مصلحة ثم ما هو دونه، ودرء ما هو أشد خطراً ثم ما هو دونه وتحقيق المصالح الكبرى وإن اكتنفتها مفاسد صغرى، ودرء المفاسد الكبرى وإن أهدرت معها مصالح مساويةً لها أو أدنى منها، وكل ذلك لا بد أن يتم وفق منهج الموازنات، وعلى هذا فإن لمنهج فقه الموازنات أهميةً قصوى واحتياجاً كبيراً في مجال السياسة الشرعية بل إن السياسة الشرعية تقوم في أساسها على فقه الموازنات 6.
ومن فقه الموازنات الذي تحتاجه الأمة بمجملها ويدخل في فرض الكفاية ما يتعلق بمستجدات الأمور وتطورات الأيام، حتى يزال كثيرٌ من الغموض في قضايا تتعلق بالجانب الدعوي والسياسي والاقتصادي، وبيان راجحها من مرجوحها وفق شرع الله، فيجب على الأمة أن تستنفر منها طائفة يكون بها الوفاء بحاجاتها للتفقه في فقه الموازنة لتسد الحاجة، وتزيل عنها الكثير من العناء والخلل الواقع والمتوقع، من خلال منهج الموازنة بين المصالح والمفاسد7.

إن موضوع فقه الموازنات مهمٌ جدًا ولا يكفيه مقال مختصر كهذا لعلنا نزيده بحثًا في مقالات قادمة إن شاء الله.

 

أستاذ مساعد في قسم القضاء والسياسة الشرعية

الجامعة الإسلامية بمنسوتا -الولايات المتحدة

الهوامش.

 

1-قواعد الأحكام في مصالح الأنام: ج1، ص 9.

 

2- فقه الموازنات في الشريعة الإسلامية دراسة تأصيلية مقاصدية : د عمر جبه جي ، دار الكلمة ، 2018م.

3-فقه الموازنات : ص 23.

4-في فقه الأولويات دراسة في ضوء الكتاب والسنة: د يوسف القرضاوي، ص 27، مكتبة وهبة ، 1416هـ.

5-فقه الأولويات دراسة في الضوابط: محمد الوكيلي، المعهد العالي للفكر الإسلامي.

5- منهج فقه الموازنات : عبد العزيز السوسرة،ص7.

6-السوسرة: ص 8.

7-فقه الموازنات بين المصالح والمفاسد : حسين أبو عجوة ، ص 109.

تعليق عبر الفيس بوك