وانطفأت شمس كريم العراقي.. الأدب العربي يودّع فارس القصيدة الغنائية وصاحب "مدينة الحُب"

◄ ولد في بغداد عام 1955 ودرس علم النفس وموسيقى الأطفال

◄ تغنى في حب عُمان بقصيدة أبرزت قيم التسامح والحب والعدل

◄ ظهرت موهبته الشعرية منذ الطفولة ونشر إبداعاته في العديد من المجلات

◄ أسرت كلماته النابضة بالحياة والعاطفة قلوب جميع  العرب

◄ ألّف عشرات المسرحيات والقصائد.. وغنى كلماته أشهر النجوم

◄ تميز بالتعبير عن قضايا العراق في ظروفه الصعبة

◄ لم ينقطع شاعر العراق عن الكتابة حتى اللحظات الأخيرة.. وألّف 55 قصيدة في المستشفى

الرؤية- ريم الحامدية

ملأنا الأرض أزهارًا وحُبًا .. وفي أعماقنا هم كبير ** ونقضي العمر نكرانًا وفقرًا.. وبعد الموت أعلامًا نصير.

كانت هذه الأبيات ملخص حياة الشاعر الكبير الراحل كريم العراقي الذي أبهرت قصائده الجميع، ليتألق نجمه في سماء الشعر العربي المعاصر بعد أن زرع الأمل في نفوس الكثيرين وجعلهم يتمسكون بأحلامهم حتى تتحقق يوما ما، وعبَّر عن ذلك بقوله: "ضاقت علي كأنها تابوت .. لكنما يأبى الرجاء يموت"

انطفأ سراج شعر بلد النخيل ودجلة والفرات، بعد أن تركنا نردد قصائده مرارا وتكرارا حتى تملك حبه قلوبنا، ليترجل الفارس عن جواده في الأول من سبتمبر 2023 بعد صراع مع المرض وعن عمر يناهز 68 عامًا، تاركا لنا إرثا أدبيا زاخرا.

لقد تميز كريم العراقي بكلماته التي تعبر عن القضايا الإنسانية الجامعة، فقد كان يعبر عن المشاعر بطريقة تأسر القلوب ويحول تجارب الحياة إلى أبيات مؤثرة يصل صداها من الخليج إلى المحيط، فقد كانت كلماته نابضة بالحياة والعاطفة فترسخت في أذهاننا وستظل حتى وإن غابت شمس كريم العراقي.

ولد الشاعر كريم عودة الذي اشتهر بكريم العراقي في محلة الشاكرية بالعاصمة العراقية بغداد عام 1955، ودرس علم النفس وموسيقى الأطفال في معهد المعلمين، وبعد تخرجه عمل معلمًا لعدة سنوات، إلا أن شغفه الرئيسي تعلّق بالشعر والأدب، وهي الهواية التي أظهرها منذ أن كان طالبا في المرحلة الابتدائية ليكتب في مجلات عراقية، واستمر في هذا المجال فترة طويلة ينشر إبداعاته في العديد من المجلات من بينها "الشباب" و"الإذاعة والتلفزيون" و"المتفرج" و"الراصد".

ويمتلك كريم العراقي سيرة مهنية حافلة بالمجد، إذ ألّف عشرات المسرحيات والقصائد التي غنّاها أكبر نجوم الوطن العربي مثل كاظم الساهر وأصالة وماجد المهندس وصابر الرباعي وسميرة سعيد وغيرهم الكثير.

وفي تسعينيات القرن الماضي، كانت قصائد كريم العراقي خير معبرٍ عن العراقيين خلال الظروف الصعبة التي عاشوها، فكتب عن الحصار الاقتصادي الذي تعرّضت له بغداد، وقصائد حماسية للجيش العراقي خلال حربه مع إيران أشهرها "الشمس شمسي".

ومنذ قرابة ثلاث سنوات أصيب كريم العراقي بمرض السرطان، وحظي برعاية محمد بن زايد رئيس دولة الإمارات الذي أمر بعلاجه داخل مستشفى "كليفلاند" في أبوظبي، وخضع لأكثر من عملية جراحية وعددٍ من جلسات العلاج الكيميائي، لكن أياً منها لم ينجح في تحسين حالته الصحية.

وخلال جلسات العلاج الكيميائي، انتهى من سيناريو الجزء الأول لفيلم "أنا ابن كلكاميش" الذي كان بالأصل مسرحية غنائية سيقوم ببطولتها كاظم الساهر، إلا أن صعوبات حالت دون تحقيق هذا المشروع منذ سنوات طويلة، فقرّر تحويلها إلى عمل سينمائي.

حتى اللحظة الأخيرة لم ينقطع كريم العراقي عن كتابة الشعر، وخلال فترة رقوده في المستشفى ألّف 55 قصيدة، أطلق عليها اسم "على سرير الأمل"، وعلى الرغم من آلام العلاج الكيميائي إلا أنه كان يُردد: "وصبري أقوى من مرارتها" في تعبيره بأنه أقوى من الحقن الكيميائية التي يُعالجه بها الأطباء، كما أنه كتب: "الصبر يعرف من أنا منذ الصبا/ وشمٌ له في أضلعي منحوت".

ورغم الوهن الكبير الذي بدا عليه الشاعر العراقي بسبب المرض، إلا أن الابتسامة هيمنت على وجهه، وألف هذه القصيدة التي كانت تمثل له الكثير لأنه كتبها بعد أن انقطع عن كتابة الشعر إثر إصابته بمرض السرطان وهو ما استدعى علاجا مكثفا.

ضاقت عليّ كآنها تابوت..  ولكنما يأبى الرجاء يموت

يا صاحبي إن رحت عنك مودعا .. بعد الرحيل أينفع الياقوت ؟؟

أنا أكره الشكوى وأكره أهلها .. والله يشهد أنني ل صمٌوت

لكنما سحق الزمان مشاعري .. وطوى يديّ بسحره هاروت

أرأيت حيا ميتا متماسكا متفائلا .. وله الأماني قوتُ ..

هذا آنا سرقت شبابي غربتي .. وتنكر تلي أعينُ وبيوتٌ

يا صاحبي انا كالعراق ممزق .. انا كالعراق بلا معين غدوت

عجّل فإن الصمت أخرس ضحكتي .. و ضيعتاه إذا الأوان يفوتُ

أقول الآه كي تشفي غليلي.. وتجرحني وأحسبها دوائي

على جمر تسير بي الليالي .. ولا نور أمامي أو ورائي

يزور الحزن قلبي دون إذن .. وتمطر دونما غيم سمائي

أنا الصمت الحريق أنا الشحوب .. أنا صبر العراق على البلاء

أنا لا أستريح على فراش .. وفي جنبي هم كربلائي

تقول أراك مبتسما تغني .. وكم يحتاج مثلك للبكاء

وما تدري بأن بكاي صعب .. وأكبر من دموعي كبريائي

أشرق أم أغرب أم أطير .. فشعري والهموم هما السرير

وإن غنى الملوك جميل شعري .. فإني ما أزال أنا الفقير

وآلافا من الأبيات أبني .. وما في حوزتي بيت صغير

لو أن الشعر يتبعه ثراء .. بنى قلبي الفرزدق أو جرير

ملأنا الأرض أزهارا وحبا .. وفي أعماقنا هم كبير

ونقضي العمر نكرانا وفقرا .. وبعد الموت أعلاما نصير

هذه النهاية الدرامية لهذا الشاعر الكبير تتشابه مع نهاية الشاعر المصري أمل دنقل الذي ألف ديوانه الشعري "أوراق الغرفة رقم 8" في أخرى أيامه عندما داهمه المرض.

لقد كانت مسيرة الشاعر الكبير كريم العراقي حافلة بالإرث الأدبي، كما أن الحكومة العراقية توجعت هذه الرحلة الأدبية والمسيرة الزاخرة بالأعمال بإصدار طابع بريدي للشاعر الكبير كريم العراقي، في الـ29 من يوليو عام 2022.

وذكر البريد العراقي أن هذا الطابع التذكاري، صدر تكريما للشاعر الكبير، حيث تم طرحه وتسويقه من خلال المكاتب البريدية المنتشرة في بغداد والمحافظات العراقية ومكتب خدمة هواة الطوابع.

وتُوجت تلك المسيرة أيضا بأكثر من تكريم عربي ودولي منها نيله لقب "أفضل أغنية إنسانية"، الذي منحته منظمة "اليونسيف" الأممية عن قصيدته "تذكر"، التي غنّاها كاظم الساهر،  كما حصل على جائزة الأمير عبدالله الفيصل لعام 2019.

جاء كريم العراقي من جيل لا يشبهه عصره، فقد كان يكتب لهذا الجيل الذي يتغنى بأشعاره في كل وقت وحين، وقد كتب العراقي في العديد من الجوانب، فكتب في الحب والحزن والصبر والفقر، وهو الذي قال في الصبر: لا تشكو للناس جرحًا أنت صاحبه، لا يؤلم الجرح إلا من به ألم.

وقال في الثقة: كَمْ خَابَ ظَنِّي بِمَن أَهدَيتُهُ ثِقتَي فَأَجْبَرَتْنِي عَلَى هجْرَانِهِ التُّهَمُ كَمْ صرتُ جِسْرًا لمَن أَحبَبتُهُ فَمَشَى عَلى ضُلُوعي وَ كُم زَلَّت بهِ قَدَمُ فَدَاسَ قَلْبي.

وقال في الحب: تلك التي أسميتها تاجَ النِّساءِ .. أَسَفاهُ كَانَت ذَاتَ يوم في دمائي .. تبًّا لِعينيهَا حَسِبتِهمَا سَمَائي .. أَنا خَانني صِدقِي ودَمَّرَنِي وَفَائِي .. وَمَددت كَفي كَي أصافح صدمتي .. شكرا لجرح فيه كانت صحوتي.

وقال في اليأس: لا اليَأسُ ثَوبِي وَلَا الأحزانُ تَكسِرُنِي جُرحي عَنِيدٌ بِلَسعِ النَّارِ يَلتَئِمُ .. اشرَب دُمُوعَكَ وَاجرَع مُرَّهَا عَسَلًا يَغزُو الشُّمُوعَ حَرِيقٌ وَهِيَ تَبتَسِمُ.

كما أن الراحل كريم العراقي عبَّر عن حبه لسلطان عُمان الراحل ولأهل السلطنة بقصيدة جاء فيها:

لبست عمانك أربعين وشاحا .. يا من ملأت بيوتها أفراحا

الأربعون هي الكفاح المشرق .. رسمت بوجهك شيبها مصباحا

يا من حرثت جبالها وقلاعها .. ورمالها وسهولها إصلاحا

وسقيتها بالصبر حتى أثمرت .. خيرا وخضت بحارها ملاّحا

الحب سلطان وأنت زرعتها .. حبا ففاض عبيرها فواحا

والعدل سلطان وأنت بذرتها .. عدلا فأينع صخرها تفاحا

والنوم سلطان وأنت جعلته .. نوم الأمان إلا فنم مرتاحا

قابوس سلطان وسل عن حبه .. تلك القلوب البيض والأرواحا

حب حقيقي يحبك شعبك .. ودعاؤه يحميك ليل صباحا

تعليق عبر الفيس بوك