أغسطس العظيم

 

ماجد المرهون

majidalmrhoon@gmail.com

 

 

تتألف السنة قبل الميلادية في التقويم الروماني القديم من عشرة شهور وكان شهر أغسطس آنذاك يُسمى سكستيليس تعبيرًا عن ترتيبه كشهر سادس ضمن الشهور العشرة، وقد تغير إلى الشهر الثامن مع تعديل العام إلى 12 شهرًا في التقويم الجريجوري الميلادي وسُمي الشهر الثامن نسبة للإمبراطور الروماني أوغسطس قيصر وعمومًا كان للحضارة اليونانية سبقٌ كبير في علوم الفلك إبان حكم الرومان، ويُعتبر هذا الإمبراطور العظيم ـ والعظمة المطلقة لله ـ رجلًا مخضرمًا لمرحلة ما قبل الميلاد حيث عاصر 14 عامًا بعد ميلاد المسيح، وقد شهدت فترة حكمة تقدمًا علميًا وتطورًا حضاريًا مشهودين وسلامًا امتد لفترة طويلة مع الأخذ بالاعتبار بعض الجدليات المُعارضة لذلك.

وبما أن أوغسطس قيصر شخصية مثيرة للجدل، فإنَّ شهر أغسطس كذلك لم يحد كثيرًا عن هذه النزعة المُثيرة من خلال الوقائع الاستثنائية والغريبة التي تتولد في هذا الشهر عبر التاريخ الإنساني وأهمها انتصار المسلمين على الروم في معركة اليرموك عام 636م بقيادة خالد بن الوليد والذي يقول عنه القائد العسكري الألماني هندنبرج: "العبقري خالد هو أستاذ الصرعة في الحروب"، واكتشاف الأمريكتين في رحلة كريستوفر كولومبس عام 1492 وحدث ولا حرج لما حدث بعد ذلك من غزوٍ أوروبي للأرض الجديدة وما أعقبه من ويلات على السكان الأصليين في أمريكا الشمالية وماتلاه من مجازر واستعباد وتجارة رقيقٍ وعنصرية، ثم اكتشاف عنصر الأوكسجين والجدل بين نسبةِ ذلك الاكتشاف إلى السويدي كارل ولهلم شيل والإنجليزي جوزيف بريستلي عام 1774، ولا ننسى حدثين مهمين في هذا الشهر وهما تولي هتلر للسُلطة عام 1934 والحرب العالمية الثانية التي خلفت دمارًا وخرابًا لم يشهد لهما التاريخ مثال وعدد قتلى يصل إلى 60 مليون إنسان بين مدني وعسكري، ليختمها الأمريكان في شهر أغسطس أيضًا بإلقاء القنبلة النووية الأولى على اليابان ولايزال جدل التسلح النووي مستمرًا إلى أغسطسنا هذا وسيبقى مابقي مخابيل الساسة متحكمين بقرار السياسة والعلم، وغيرها الكثير من الأحداث التاريخية والمفصلية التي نُقشت في صخرة الذاكرة الإنسانية.

 

يُعد شهر أغسطس من الشهور المميزة فلكيًا على مستوى منطقتنا العربية وخصوصًا من ناحية الطقس؛ إذ تبدأ درجات الحرارة بالتعادل النسبي والانخفاض التدريجي، وهو شهر برزخي يعادل بين الحرارة والبرودة، ومخضرم مابين توديع لهيب الصيف ومرحبٍ ببشارات الخريف اللطيف، ولكن ربما الأمر ليس كذلك في محافظة ظفار بل هو أقرب إلى الاختلاف شبه الجذري عما هو متعارف عليه في المنطقة العربية عمومًا والخليجية خصوصًا من حيث الشكل والمضمون.

كانت العلوم الفلكية عند العلماء المُسلمين قديمًا تُسمى بعلم الهيئة وقد وضعوا جداول حسابية تعنى بشروق وغروب الشمس والقمر والكواكب السيارة وأطوار القمر ومنازله وتشكيلات النجوم كما تظهر صورتها في القبة السماوية وتغيرها بحسب حركة الأرض ودورانها حول الشمس وقد سميت تلك الجداول بالأزياج ومفردها زيج؛ ولايزال شهر أغسطس بمشيئة الله يلعب دوره الفعال في المنظومة الفلكية لأشهر العام ولكن الحسابات الفلكية في محافظة ظفار لا تعتمد على التقويم الجريجوري الميلادي ولا تهتم أصلًا بشهر أغسطس ولا شأن لها بالقيصر ولا بتسميته، وإنما تعنى بما يعرف بالنجوم وهو حسابٌ يُقسَّم فيه النجم إلى 13 يومًا تُرصد من خلالها مواسم الصيد والزراعة والحصاد والخريف والأمطار وغيرها الكثير من الأقاويل ومما وثق من خلال التجارب المعتمدة على تلك التقسيمات كما وضعت الأمثلة الشعبية التي تصف النجم وتأثيره على أحوال الناس والمكان، وبما أن لكل نجمٍ اسمه الخاص وتيمناته وتوقعاته فإننا وفي تاريخ كتابة هذا المقال الآن في نجم "بلَع" بتشديد الباء وفتح اللام، ويتلوه نجم "الذابح" إلى اليوم قبل الأخير من شهر أغسطس وهما نجمان معروفان ومشهود لهما بكثافة الغيوم واستمرارية الأمطار.

يختال بهاء أغسطس قيصر شهور العام بمحافظة ظفار في فصل الخريف الممتد لثلاثة أشهر والواقع بين 8 نجوم بالحساب المحلي منذ الشول في شهر يونيو إلى المناصف في شهر سبتمبر، فهو من الشهور المميزة جدًا من حيث هطول الأمطار واحتجاب الشمس التي تناضل للظهور من وراء الغيوم الكثيفة ولكنها لا تتمكن إلا قليلًا على شكل أعمدة نور متباعدة أو إشراقات لحظية، والخصب الذي يبسط رداءه الأخضر بكل درجاته على مد النظر فوق أرضٍ كريمة تجود مع أنفاسها الزكية سريعًا بكنوزها المكنونة على المخلوقات ليزخر العطاء مع أول القطر ويزداد مع زخات المطر وتنساب الجداول وتفيض العيون من بين الصخور وتجري الينابيع لتسقي الأعشاب الصغيرة فتزهر وتروي الأشجار الكبيرة فتثمر فتغدو مرتعًا باهيًا تسمو معه الأرواح وزاهيًا تستكين به النفوس وغذاءً طبيعيًا للإنسان والحيوان.

إنَّ موسم الخريف وموسم الصرب (الربيع) الذي يعقبه، يستحوذان معًا على نصف العام الميلادي، وهما هبة من الله إلى هذه الأرض الطيب إنسانها وترابها ومائها وهوائها، وكما تستحق هذه البقعة الخضراء في محيطها الصحراوي الكبير شكر الله وحمده، فإنها تستحق إعادة النظر إليها أكثر مما هو عليه الآن؛ سواءً في مشاريع البنية الأساسية أو مشاريع صناعة السياحة المستدامة وليس الموسمية فقط؛ نعم إن "إرضاء كل النَّاس غاية لا تُدرك"- كما يقال- إلا أننا لا نشعر بالراحة والرضا التام عندما يشتكي زائرٍ أو يتذمر من نقصٍ ما، وهو شعور دفين قد لا يُصرِّح به الكثير، كما نشعر بالاعتزاز والفخر عند الانطباعات الحسنة، مع أن جهود الجهات الحكومية المختصة تتكاتف لتشكل منظومة تعاون مشترك في سيطرةٍ وإتقانٍ منقطعي النظير وسرعة تفاعل وروعة أداء لا يخفيان على أحد ولن تفي حقهم كلمات الثناء وأعلم أنهم لايسعون لها بقدر ما يُحركهم واجبهم في السعي لاستتباب الطمأنينة والأمان والراحة والاستمتاع للجميع.

قيل قديمًا في المثال الظفاري المُعبِّر عن شاعرية وذكريات الشباب في وصف جمال وسرعة دخول وخروج نجم "خباء" وهو النجم قبل الأخير في موسم الخريف ويختطف يومه الأول من آخر أيام شهر أغسطس العظيم: "خباء لي ينط نط الظباء ويرد العجائز صبا".